كنتُ طفلاً عندما سمعتُ للمرّةِ الأولى اسم طه حُسين، وقد ذَكَرَهُ مُعلّمي في الصف الخامس ساخراً يومها منّي، لا زلتُ أذكُرُ ذلك الخجل، والشعور بالحرج اللذين انتاباني حينما رفَعَ المعلّمُ صوتَه قائلاً لزملائي: “هل سمعتم ما قالهُ طه حسين؟!” فضحكَ الأولادُ، وكلُّ ذنبي أنني كنتُ أتحدّث العربيّة الفُصحى، وأحاول ألّا أستخدم العاميّة في الدرس، ما استطعتُ ذلك، لكنَّ الرجلَ مضى يضحكُ بصورةٍ غريبة، ولا سيّما حين استعملتُ مُفردَتَي: “الحذاء “عوضاً عن “السباط”، و”زنبور” عوضاً عن “دبّور”. هل تفاصحتُ يومها أكثر مما ينبغي لطفلٍ في الحادية عشرة من عُمره؟، حتى نعتني المعلّم بـ “طه حسين”، الذي ما كنتُ أعرِفُهُ، أم هو جهل الرجلِ بأصولِ مهنةِ التعليم وكرهه لغةً لا يُتقِنُها، على كلِّ حال مرَّ على الحادثة ما لا يقلُّ عن أربعينَ سنة، يومها سألتُ والدي -وهو معلمٌ من نوعٍ آخر- عن طه حسين فحدّثني عنه، عن ذكائِهِ وفصاحتِهِ وقوّة إرادته، وقدرته على التغلُّب على الصعوبات التي واجهته، ومنها ما تعرَّضَ لهُ بدورِهِ من سخريةٍ – كما حدثَ لي مع مُعلِّمي، وذَكَرَ بعضَ مؤلّفاتِ طه حُسين، فَعلِّقَ في ذِهني عنوان روايته “دعاء الكروان”، ولأن مكتبتَنا يومها كانت صغيرة، ولا وجودَ للكتابِ المذكورِ فيها، فقد طلبتُ مبلغاً يكفي لشرائِهِ، فأعطاني أبي خمسَ ليرات، ومضيتُ إلى مكتبة “الاتحاد”، ليستقبلني صَاحبُها “أبو جمال”، الذي سيصبحُ صديقي بعد سنواتٍ، يزورُني في المركز الثقافي العربي في السويداء قبل مواعيد المحاضرات والندوات وندخُلُ معاً قاعة المركز. ابتسم لي “أبو جمال” عندما طلبتُ رواية “دعاء الكروان”، وقالَ ما معناه: “أليسَ الوقتُ مبكّراً لتقرأ طه حسين؟! لماذا لا أعطيكَ قصةً ممتعة للأطفال”، فأكّدتُ لهُ أنني أريدُ أن أقرأ “دعاء الكروان”، فأعطاني نسخةً ذات ورقٍ أصفر وغلافٍ عاديٍّ بسيط يحملُ عنوان الكتابِ فحسب، وأضاف إليها رواية “جزيرة الكنز”، لروبرت ستيفنسون، ذات الورقِ الأبيض الناصع والغلاف الجميل، فقلتُ لهُ “لا أحمل إلا خمس ليرات”، فأخذها وأكَّدَ لي أنها تكفي! لم أستطع وحدي أن أفهم “دعاء الكروان”، فاستعنتُ بأبي لشرحِ كثيرٍ من مُفرداتها ومواقِفها، ثُمّ سعدتُ كثيراً ذات يوم حين شاهدتُها فيلماً أدّى بطولَتَه فاتن حمامة وأحمد مظهر.
اللقاءُ الثاني بطه حسين سيكونُ بعدَ نحوِ عشرينَ سنة، يومَ كتبتُ بحثاً بعنوان “الأبطال والطغاة في الذاكرة الشعبيّة”، وشكّكتُ بحدوثِ كثيرٍ من الحوادثِ التي ترويها كُتبُ الأدبِ القديم والسير عن الفئتين، من ذلك مثلاً حكايةُ الحجّاجِ الثقفي مَع هند بنت النعمان وإذلالها إياه في موقفينِ غريبين وصبره على ذلك، وحكاية ولادتِهِ لأمِّهِ الفارعة وأبيهِ يوسف بن أبي عقيل الثقفي، كما رواها ابن خلكان، وقد رأيتُ يومَها أنّ العامةَ ابتكرت تلك الحكايات والقصص انتقاماً من الطغاةِ وتحقيراً لهم وقد عجزت أن تصل إليهم بأيديها وأسنَّتِها وسيوفِها، وفعلتِ الأمرَ نفسه فيما يخصُّ الأبطالَ والشخصيات المحبوبةِ فاختلقت لها من الحكاياتِ ما يرفَعُ من شأنها ويُكرِّمها. يومها قال لي أحدُ الأصدقاء الباحثين: “أظنّكَ قد تأثّرتَ بمنهجِ طه حسين في تعاملِهِ مع الشعر الجاهلي؛ لقد أخذتَ عنه ذلك الشكَ العلميَّ الخلّاق وسيلةً في بلوغِ الحقيقة”، على أنني يومها لم أكن قد قرأتُ الكتاب المذكور، فشعرتُ ومن جديدٍ بالخجل الناجِمِ هذهِ المرّة عن التقصير، ما دَفعني إلى قراءتِهِ ومتابعةِ قضيّتِهِ ومُحاكمته، مُردِّداً في نفسي القولَ المأثور: “أن تأتي مُتأخِّراً، خير من ألّا تأتي أبداً”. ومتذرِّعاً بدراستي العلميّة وعملي الدؤوب على أطروحةِ الدكتوراه في العلوم التقنيّة!.
أمّا اللقاءُ الثالثُ – وهو الأشملُ والأوسع – بهذهِ الشخصيّة الفريدة فقد بدأ منذُ بضعةِ أسابيع حين قرّرتُ أن أضَعَ مُختاراتٍ من إبداعاتِ طه حسين تُقدَّمُ لقرّاء سلسلة “من ثمرات العقول” التي تُصدرها الهيئة العامة السوريّة للكتاب، فوجدتُ نفسي ليس أمام “الأيام” و “دعاء الكروان” و”في الشعر الجاهلي” و”صوت أبي العلاء” فحسب مما أعرفُهُ، بل أمامَ نتاجٍ ضخمٍ وعظيمٍ ما زالَ يثيرُ الكثير من الجدل، ويبعثُ على التفكير، وإعمال الذهن في أسئلةٍ طَرَحها رجلٌ من روّاد عصر النهضة وما زالت مُلحّة حتى اليوم.
وجدتُ نفسي كما عَبّر غالي شُكري عام 1972 أمامَ “الفتى الصغير الذي يفقدُ بصرَهُ في وقتٍ مُبكّرٍ نتيجة الجهل والتخلّف ويصبحُ شعاعاً مُضيئاً على طريق التقدّم. الصبي الفقير الذي يتعلّم القرآن في الأزهر ويصبحُ النجمَ اللامعَ في صفوف الصوربون. الشاب الذي وضعَ التراث العربي الإسلامي في ينابيعه الأولى ووقفَ منذ بداية عُمره الأدبي في قفص الاتهام بالكفر والإلحاد…”.
وجدتُ نفسي أمام طه حسين الذي اشتغلَ على الدراسات الإسلاميّة وفق منهجِهِ الجديد يومذاك فبعثَ فيها تاريخَ أمّتِهِ ومعاركها النضاليّة وأبطالها بصورةٍ جديدةٍ بعيدةٍ عن النحلِ والتزوير والخُرافات، ولا سيّما في كتابيهِ: “على هامش السيرة” و”الفتنة الكبرى”، دون أن يمنعَهُ ذلك من النظر بعين البصيرة إلى أصول الثقافة الإنسانية المختلفة، وتراث الأقدمين من الأمم الأخرى، ويشهدُ له – كما ذكر غالي شُكري – “قسمُ الكلاسيكيات في الجامعات المصريّة بتركيزهِ على الثقافات الأخرى كالإغريقيّة، وترجمته للمسرح الإغريقي و”قادة الفكر” في أثينا، ما جَعَلَهُ “الحافز الأكبر في تخريج العلماء المصريين المتخصصين في اليونانيات” وجدتُ نفسي بعد أن قرأتُ كتابَهُ “ألوان”، وأطلقتُ على بعض أعداد مجلّتِهِ “الكاتب المصري” أمامَ أوّل من قَدّمَ للقارئ العربي – وبصورةٍ عميقة – كُتّاباً مثل كافكا وفاليري وكامو وسارتر وأعادَ النظر في رموزٍ ثقافية عربية، مما حرصتُ أن أُظهِرَهُ في المختارات التي أضعُها من أعمالِهِ، وفي دورِهِ في مجال التربيةِ والتعليم يكفي أن أذكُرَ أنّ الرجلَ حين انضمَّ إلى حكومةِ “الوفد” قبل حركة 23 يوليو، بصفةِ وزيرٍ للمعارف حقّقَ ما كان يصبو إليه في جعل العلم “كالماء والهواء”، فكانت مجانيّةُ التعليمِ في المرحلتينِ الابتدائيّةِ والثانويّة، وأكملَ جمال عبد الناصر الحُلمَ بجعلِ التعليم الجامعيِّ مجانياً أيضاً. وجدتُ نفسي أمامَ طه حسين، الذي عَدَّهُ بعضهم صاحبَ موقفٍ “مُحافظ” في الأدب والفنون، يُقدِّمُ لإحدى مجموعاتِ يوسف إدريس الباكرة، ويُرحّبُ بمسرحية توفيق الحكيم “أهل الكهف”، ويبارك البناءَ الدراميَّ الذي يطرحه المؤلف، ويعدّهُ واحداً من أعمدةِ الأدب العربي الحديث، ويستقبلُ أعمال نجيب محفوظ الروائيّة منذ البداية بالترحاب ويشجّع صاحبها، ويشيدُ بها، وقد يُلخِّصُها ويحللها، حتى يصبح محفوظ كاتباً كبيراً…
ولذلك كلّه نظَرَ إليهِ معظم كتابِ مصرَ والوطن العربي “بوصفِهِ تاريخاً حيّاً كمثقفٍ عظيم عاش أحلى سنوات العمر مناضلاً وطنياً جسوراً في مقدّمةِ الصفوف… وربطَ بين الثقافةِ والحياة ربطاً أصيلاً ومُعاصِراً…”
إضاءات – د. ثائر زين الدين