كتبَ كثيرونَ عن اللهجات العاميّة، وسمّاها بعضهم اللغة العاميّة أو المَحْكيّة، من قدماء ومُحدثين، وكان معظمهم يُهاجِمُ تلكَ اللهجاتِ بوصفها نقيضاً للعربيّة الفصحى ومُهدِّداً لبقائِها، ورأى هؤلاء أنّ على الكتّابِ اجتناب الألفاظ والتعابير العاميّة فيما يكتبون.
لكنَّ قِلّةً أخرى من الباحثين، وهم من عُشّاقِ العربيّةِ وأعلامها، رأوا أن لا خَطَرَ على العربيّة الفصحى من العاميات لأسباب عديدة، ومضوا يدرسونَ ألفاظها وأساليبها، وبحثوا في تاريخها، وتَقصّوا علاقة العاميّة بالفصحى، ولعلَّ ابن الحنبلي (ت 971 هـ) كان أوَّل من فعَلَ ذلك في كتابِهِ «بحر العوام في ما أصاب فيه العوام»، الذي حَقَّقَهُ وقدّم لهُ ونشره عز الدين التنوخي في دمشق سنة 1937، والشيخ أحمد رضا (ت 1953م) في كتابِهِ «رد العامي إلى الفصيح»، وأميرُ البيان شكيب أرسلان في كتابِهِ المعروف «القول الفصل في رَدّ العاميِّ إلى الأصل» الذي قدَّم له محمد خليل الباشا.
كما وضعَ بعضُهُم معاجم للعاميّة، لا بوصفها بديلةً للغةِ الفصيحة، بل لأنها تشكّل رافداً لها بما تحقّقُهُ من فائدة في وضع ألفاظٍ ومُسمَّيات حديثة تُغني المعجم اللغوي الشامل الذي نتوقُ إليه، بالإضافة إلى كون العاميّة وثيقة مُهمّة تُلقي الضوء على حياة الناسِ وعاداتهم ومعتقداتهم وتقاليدهم وطُرق تفكيرهم، كما عَبّر قاسم وهب واضع أحد هذهِ المعاجم وقد صدرَ كتابُهُ عن وزارة الثقافة في جزأَيْنِ عام 2009.
وفي الحق أَنَّ نظرة عميقة إلى العاميات تجعلنا نؤكد أنها عربيّة، وما أسرع وأسهل أن نردَّ معظم كلماتها إلى الأصل الفصيح، حتى أكثرها غرابةً، كما فعَلَ أميرُ البيان شكيب أرسلان، وسأضرب بضعة أمثلة فحسب مما جاءَ في كلامِهِ:
«تبل: تقولُ العامةُ «فُوْل متَبَّل» أو «حمّص متَبّل»، وهذا صحيح من التابل وهو في اللغةِ بكسرِ الباءِ وفتحها: ما يُطيّبُ بهِ الغذاءُ من الأشياء اليابسة كالفلفل والكمّون وما أشبه.
تكة: التكَّة: رباطُ السراويل صحيحة، والعامة تقول «الدِكّة» في الشام وطرابلس والمغرب.
توم: تقول العامة «تَوْم» للولدين يولدان معاً، وصحّتُهُ توْءَم، فالعامةُ على عادتهم يحذفون الهمزة.
دهك: ومن كلام العامة في الشام والمغرب ومصر «دَهكَه» بمعنى أضنكَهُ، و«مدهوك» أي في غاية التعب، و«اندهك»: تعب، وقد يقولون «دَهْدَكهُ» للمبالغة على عادتهم، والصحيح أنّ دَهَكهُ هو بمعنى كَسَرَهُ وطحنَهُ، ويقال: دَهَكَ الأرض: وطِئها برجله، والدهيك: المطحون.
لحلح: «فلان ما يلَحْلح»: أي ما عاد يأتي ولا يُري نفسه، وهذا آتٍ من اللغة الفصحى: لَحْلَح القوم وتلحلحوا: لم يبرحوا مكانهم، وفي مصر يقولون: «ملحلح».
كوع: يقولونَ في بلاد الشام ومصر وطرابلس «لا يعرفُ كوعه من بوعه»، وهذا من الفصيح، الكوع: كما تعرفه العامة طرف الزند الذي يلي الإبهام، وهما عظمانِ متلاصقانِ في الساعد أحدهما أدق من الآخر، وطرفاهما يلتقيان عند مفصل اليد، وأمّا البوع فهو العظم الذي يلي إبهام الرِّجل.
كعر: ويقولونَ «كَعَر الحائط»، يستعملونه لازماً ومُتعدِّياً. بمعنى هَدَمَ وانهدَمَ، وأصلُهُ ليسَ بالكاف، بل بالقاف، ولم نجد قَعَر لازماً، بل هو مُتعدٍّ: قعر الشجرة: قَلَعها، وفي سورية «قَعَرَهُ»: طردَهُ، وفي حمص والسويداء «كَعَره»: طرده، وكذلك في لبنان».
وقد رأينا أن بعض الباحثين ولا سيَّما واضعي معجمات العامّية تطرّقوا إلى علاقة العامّية بالآراميّة أو السريانيّة وغيرها من اللغات الساميّة، وهذا ما لا يمكن نَفْيُهُ؛ فالعربيّةُ فرعٌ رئيسٌ من فروع الساميّات، إن لم تكن أكثرها غنى وشمولاً، ولكنَّ «هذا لا يعني أن نعزو كثيراً من الكلمات العاميّة التي نجهلُ أصولها الفصيحة إلى إحدى اللغات الساميّة، لأنَّ مثل هذا العَزو يقتضي التدقيق والبحث المُتأنّي، إذْ من المُرجَّح أنّ الأصل السّامي المُشتَرك هو الذي يمكن أن يُردَّ إليه الكثير من الكلمات العاميّة التي لم ترد في معاجم اللغة الفصيحة، لأن هذهِ الأخيرة -كما يُعبّر قاسم وهب- تناولت ما هو شائع ومُتناقَل من المأثور اللغوي المُتّصل بعصرِها. أما الاستقصاء الشامل لمفردات اللغة العربيّة الفصيحة وجذورها قبلَ عصر التدوين فهو ممّا يدخلُ في باب الاستحالة».
وفي الحق أنّ تراثاً شفويّاً لا ماديّاً هائلاً تحفظهُ العاميّة، فيهِ مئات الحكايات الشعبيّة، وآلاف الأمثال والتعابير الشعبيّة، وأغنيات الأفراحِ والأتراح والعملِ، وفيهِ الزغاريد والشعر الشعبي بأشكالِهِ المختلفة وأنواعِهِ الكثيرة، والألغاز والفوازير والسير الشهيرة، وما يصعبُ إحصاؤه، وهو ما تسعى الشعوب منذ زمنٍ إلى صونه والحفاظ عليه، وقد عنيت مؤسسات الأمم المتحدة بذلك، فأطلقت مشروع صون التراث، ووقعت كثير من دول العالم على اتفاقيّة عام 2003 لصون التراث الثقافي غير المادي برعاية منظّمة الأمم المتحدة (يونيسكو)، ومنها سورية التي أطلقت هذا المشروع على أراضيها منذ العام نفسه 2003، وما زالت وزارة الثقافة تسعى جاهدةً وبصورةٍ منهجيّة إلى جمع عناصر هذا التراث وحفظه، ومادّتُهُ الأساس كما أشرتُ سابقاً هي العاميّة السوريّة، المنبثقة عن العربيّة الفصيحة، التي تؤدي دوراً في تطوير وإغناء العربيّة على عكس ما يتصوّر كثيرٌ من المتشدّدين.
حتى إنني قد أتجرأ فأقول: إن الفصحى والعاميّة تسيران في طريقيهما إلى تشكيل لغةٍ ثالثةٍ وسيطة تقع في نقطةِ التقاءٍ بينهما بفضل عوامل عديدة أهمّها وسائل الاتصال الحديثة الطاغية.
إضاءات – د. ثائر زين الدين