من القصائد الجميلة والعميقة قصيدةٌ كتبها وغنّاها الشاعر السوفييتي بولات أكودجافا وسمّاها “جنديٌّ من ورق”، وظنّي أنّه كتبها تحت تأثير جملةِ مؤثرات؛ منها قصة هانس أندرسن الشهيرة “جندي القصدير الشجاع” أو “جندي الصفيح الصامد” وفق ترجمةٍ أُخرى، وقد نُقلت إلى العربيّة غير مرّة، وتارةً مُغفلةً من اسمِ مؤلَّفها، هناك كان الجندي لُعبةً أيضاً، أُهديت مع مجموعة كاملة من مثيلاتها في عُلبةٍ أنيقةٍ لطفلٍ في عيدِ ميلاده، لكن الجندي المقصود كان ينتصبُ واقفاً في رتلٍ مع زملائه على رجلٍ واحدة، ذلكَ أن القصدير الذي صُنعوا منه جميعاً لم يكفِ لإنهاءِ تشكيلِ الجندي الأخير الذي سيكون بطل قصة أندرسن، والذي سيلفتُ انتباه الطفلِ أكثر من زملائه المتشابهين.
والمؤثر الثاني -فيما أظنُ أيضاً- وهو لا يقل أهميّةً، يتمثَّلُ في تجربةِ الشاعر نفسه الذي التحقَ بصفوف المدافعينَ عن بلدهِ وهو فتىً صغير، وأصيبَ في إحدى معاركِ الحرب الوطنيّةِ العظمى، ولهُ قصائد عديدة تتحدَّث عن تلكَ التجربة، ثمَّ عاشَ تجربةَ جيشهِ الوطني عندما أرسلَ إلى إفغانستان. أما هذا النص فهو مختلف، ومع أنّه يبدو بسيطاً جدّاً إلّا أنّه ينطوي على رموزٍ لا يلتقطها القارئُ مباشرةً بل سيجدُ نفسه مُضطراً لإعادة القراءة مرّاتٍ عدة. فلنقرأهُ معاً وقد ترجمته للقارئ الكريم منذ مدة:
عاشَ على هذهِ الأرضِ جنديٌّ
جميلٌ ومِقدام
لكنّهُ كانَ لُعبةَ أطفالٍ،
فهو جنديٌّ من ورق.
أرادَ أن يُعيدَ صياغةَ العالم
كي يعيشَ سعيداً كُلُّ من فيه،
لكنّهُ هو نفسُهُ كان مُعلّقاً بخيط؛
فهو جنديٌّ من ورق
كانَ سعيداً أن يموتَ من أجلِكمُ
في النارِ والدُخان أكثر من مَرّة،
لكنّكمْ سخرتم منهُ؛
فهو جنديٌّ من ورق.
لم تثقوا بهِ فتسلِّموهُ أسراركم المهمّة.
لكن لماذا؟
لأنّهُ كانَ جنديّاً
من ورق.
وها هو ذا يأسى لمصيرهِ،
لحياتهِ التي لم تكن هادئة،
نادى طالباً:
“نار! نار!”
ناسياً أنّه جنديٌّ من ورق.
في النار؟
فليكن، امضِ، هل ستمضي فعلاً؟
وانطلقَ إليها،
فاحترقَ فيها،
وليس لأجلِ المال:
لقد كانَ جنديّاً من ورق.
إضاءات- د. ثائر زين الدين