الثورة:
قال فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، إن مبدأ تقرير المصير يُعد من أكثر القضايا إشكالية في القانون الدولي العام، لما يثيره من تناقض بنيوي مع مبدأي سيادة الدولة وسلامة أراضيها، وهما بدورهما يمثلان ركيزتين لا تقلان أهمية عنه.
وأوضح الحقوقي في مقال نشره موقع تلفزيون سوريا بعنوان “خديعة التسطيح الشعبوي لمبدأ تقرير المصير شديد التعقيد”، أن هذا التداخل ولّد مفارقة مركزية في بنية القانون الدولي، إذ يعترف بحق الشعوب في اختيار وضعها السياسي من جهة، ويلزم المجتمع الدولي بالحفاظ على وحدة الدول ومنع تفككها من جهة أخرى.
أشار عبد الغني إلى أن جذور المبدأ تعود إلى أطروحة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، المستوحاة من إعلان الاستقلال الأميركي القائم على شرعية الحكم المستمدة من رضا المحكومين، غير أن إدراجه لاحقاً في ميثاق الأمم المتحدة جاء بصياغة غامضة عكست توازنات القوى الاستعمارية والدول الناشئة آنذاك، ما جعل الحق مشروطاً ومرتبطاً بالسياقات الاستعمارية.
وأوضح أن التطور الحاسم جاء مع العهدين الدوليين لعام 1966 بشأن الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث نصّا بوضوح على حق الشعوب في تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، غير أن إعلان مبادئ القانون الدولي لعام 1970 قيّد هذا الحق مجدداً حين أكد على ضرورة صون وحدة أراضي الدول ذات السيادة، ما رسّخ حالة التوتر المستمرة بين المبدأين.
بيّن عبد الغني أن القانون الدولي ميّز بين تقرير المصير الخارجي، الذي يؤدي إلى الاستقلال السياسي وتأسيس دولة جديدة، وتقرير المصير الداخلي، القائم على الحكم الذاتي والديمقراطية التشاركية ضمن الدولة الواحدة.
ورغم أن الشكل الأول يبقى الأكثر إثارة للنزاع والأقل قبولاً، إلا أن الشكل الثاني بات الآلية المفضلة دولياً لتحقيق مطالب الشعوب من دون المساس بالحدود المعترف بها. كما ظهرت أنماط خاصة كتقرير المصير للشعوب الأصلية أو البعد الاقتصادي للمبدأ، لكنها خضعت بدورها لقيود صارمة فرضها مبدأ سلامة الإقليم.
لفت عبد الغني إلى أن المادة 2 (4) من ميثاق الأمم المتحدة تحظر استخدام القوة أو التهديد بها ضد وحدة الدول، ما يجعل أي مطالبة بالانفصال خارج الاستعمار أو الاحتلال الأجنبي أو الأنظمة العنصرية شبه مستحيلة، وأكد أن هذا الترتيب الهرمي يعكس الأولوية التي يمنحها القانون الدولي لوحدة الدولة على حساب الطموحات الانفصالية، حتى عندما تكون مدفوعة بانتهاكات أو مظالم حقيقية.
أوضح عبد الغني أن تقييم مطالبات تقرير المصير يظل رهناً بمعايير متناقضة وتطبيقات غير متسقة، حيث يطغى البعد السياسي على القانوني. ففي حين يحظى تقرير المصير الداخلي بقبول نسبي، يواجه تقرير المصير الخارجي عراقيل كبيرة خارج السياق الاستعماري.
ولفت إلى أن بعض الأدبيات القانونية طرحت مفهوم “الانفصال العلاجي” كخيار أخير عندما تتعرض جماعة ما لقمع جسيم وتنعدم سبل الانتصاف، لكنه بقي إطاراً نظرياً هشاً لم يُكرَّس كقاعدة عملية.
وأضاف أن مبدأ “الحيازة القائمة” (uti possidetis juris)، الذي يفرض تثبيت الحدود الإدارية الموروثة عند الاستقلال، شكّل محاولة لضبط مسارات التفكك، وقد طُبّق في أميركا اللاتينية وإفريقيا وعند انهيار الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. ورغم أنه ساعد على استقرار الحدود، إلا أنه أثار جدلاً واسعاً بسبب الطبيعة المصطنعة لتلك الحدود.
أوضح عبد الغني أن غياب تعريف دقيق لمفهوم “الشعوب” المؤهلة لتقرير المصير يترك مساحة واسعة أمام الدول والمنظمات الدولية للطعن في أهلية جماعات معينة. كما أن الخشية من تداعيات اقتصادية وأمنية أو من تحفيز حركات انفصالية مشابهة تدفع المجتمع الدولي إلى رفض أغلب المطالبات، مع تغليب مبدأ استقرار الحدود على الحجج القانونية أو الإنسانية.
وأشار إلى أن الأدبيات القانونية حددت معايير تراكمية لتبرير الانفصال العلاجي، مثل وجود شعب متميز يتعرض لانتهاكات جسيمة، واستحالة تحقيق تقرير المصير الداخلي، واعتبار الانفصال خياراً أخيراً. لكن هذه الشروط تبقى محل خلاف شديد، بينما يظل الاعتراف الفعلي مرتبطاً بالاعتبارات الجيوسياسية أكثر من ارتباطه بالمعايير القانونية.
خلص عبد الغني إلى أن القانون الدولي يعترف بمبدأ تقرير المصير كحق أساسي، لكنه يضع ممارسته ضمن قيود مشددة تفضّل وحدة الدول وسلامة أراضيها، وأكد أن النظام القانوني الدولي يركز على الحلول الداخلية مثل الديمقراطية التشاركية والحكم الذاتي وحماية حقوق الأقليات، بدلاً من تشجيع الانفصال.
وأشار الحقوقي السوري إلى أن ارتباط قرارات الاعتراف بالاعتبارات السياسية وغياب معايير دقيقة يجعل نجاح المطالبات الانفصالية استثناءً نادراً، يعكس أولوية الحفاظ على استقرار الدول على حساب تطلعات الاستقلال.