تشكل قراءتي لأعمال الفنان فريد رسلان (رئيس فرع اتحاد الفنانين التشكيليين في اللاذقية) مدخلاً للبحث عن أرض الطفولة والذكريات والإشارات المعمارية القديمة وجدران الأزمنة المنسية, والطبيعة والبحر، المشرعة على احتمالات التدرج ضمن إطارالواقعية, المقروءة في حركة الاشكال الإنسانية المكثفة في اللوحة الواحدة (مثل لوحته الباعة في سوق شعبي). ويذكر أن لغة الرسم والتلوين، كانت قد دخلت في نسيج حياته منذ أيام طفولته الأولى, حين كان يتأمل عناصر البيئة والأشياء الجميلة المحيطة به. تلك كانت المحرضات الأولى التي دفعته باتجاه مزاولة الرسم والتلوين، وشكلت ملامح بداياته وثقافته البصرية.
حياة الناس
ولوحاته الفنية الواقعية الحديثة، التي ترصد الحركة والحياة في الأمكنة الشعبية، قادرة على إثارة النقاش الثقافي المرتبط بحياة الناس البسطاء، والباحث عن أصالة وحداثة، في العمارة المحلية والتراث والعناصر القديمة المختلفة، وهو يجسد في لوحاته (عناصرانسانية وبيوت شعبية وريفية وطبيعة ومشاهد بحرية..) تبدو في بعض مظاهرها وإيماءاتها الواقعية معبرة عن عشقه المتجدد لمعالم بيئته وتراثها الشعبي, كما يركز لإظهار البيوت الشعبية العابقة بالمحبة والالفة وتماسك العلاقات العائلية من الداخل.
. وهو يجسد بتدرجات لونية هادئة وغيرصاخبة الشكل الإيضاحي المفهوم في مدلولاته البصرية المباشرة (مشاهد الناس والعمارة والأحياء) والنابضة في أحيان كثيرة بحركة الناس والعائلة. ويصل إلى السكون والهدوء والصمت البعيد عن ضجيج اللون الصاخب والصريح، وموضوعاته تبدو بمثابة رمز لذاكرة المناخ المحلي واشارات الفولكلور (في لوحته الدبكة الشعبية مثلاً) والمرأة يتخذها رمزاً للارض والتاريخ والحضارة.
هكذا يتجه الى معالجة عناصر المرأة والرجل والأطفال، في فسحة الحي أو في الطبيعة أو بجانب البحر، ويجعل المساحات اللونية المعتمة تتداخل مع مساحات لونية مضاءة، وبذلك تتدرج الحالة اللونية, كما يجعل البياض ستاراً شفافاً لألوان أخرى مغطاة ومطلية به, وخاصة في معالجة جدران الأبنية, مظهراً جماليات التوازن والتوافق بين البناء الهندسي المعماري, وحركة الناس في الشارع أو البيت, وكل ذلك يبرزأحاسيسه ومشاعره وبصمته الأسلوبية الخاصة.
ولوحاته تقع ما بين التكوين الهندسي المنتظم, المقروء في أشكال العمارة, وبين التكوين اللوني الهادىء القادم من تقنية وضع اللمسة العفوية أو الحركة اللونية في تدرجاتها الخفيفة والبعيدة عن السماكة, وتبدو لوحاته وكأنها جزء من شخصيته الهادئة, وهي تتناغم مع ذلك الإيحاء بالقدم (الجدران القديمة) حيث تحمل في بعض أجزائها بعداً زمنياً.
وهو كثراً مايكسر أطراف المساحة الهندسية, لصالح غايات ومقاصد فنية, بعيدة عن إغراءات وتوجهات اللوحة الاستهلاكية الصالونية.
مواضيع وطنية
وفريد رسلان يبحث في بعض لوحاته عن إيقاعات تعبيرية ورمزية في آن واحد, حيث تبرز المواضيع الوطنية والإنسانية, مما يجعلنا نشعر أنه ليس ببعيد عن تداعيات القلق والاختناق والدمار الداخلي الذي يلف الإنسان المعاصر المحاصر بالتوتر والحزن والإحباط الكلي, دون فقدان الأمل بعودة الحياة إلى الأرض المحروقة والمستباحة.. وفي هندسته المعمارية يتجاوز الدقة الرياضية، بقدر ما يذهب لإضفاء أجواء عفوية، مبنية على حساسية عاطفية تتجاوز السياق البصري الساكن المقروء في الهندسية الرياضية.
نحن هنا أمام تجمعات إنسانية يقدمها في حالات مختلفة, وتحمل الإشارات المرتكزة على الرقابة المركزة، وهذه المعادلة تتطلبها الأعمال الواقعية الحديثة والصادقة, فالوعي وحده لا يكفي, لابدّ من الإحساس الذاتي باللون, حتى يأتي العمل الفني، معبراً عن شتى المشاعر والأحاسيس العميقة، التي يعيشها الفنان أثناء انجازه عمله.
ومن الواضح أن أعماله الجديدة, والسابقة أيضاً, تشكل حقلاً للألوان المتقاربة مع المحافظة على إبراز الهمّ الرمزي أحياناً (حيث يدخلنا في صياغة رمزية غنية بالرموز والدلالات الوطنية) وهذا البعد يبرزه كفنان ملتزم يعالج بلوحاته أكثر من قضية سياسية واجتماعية.
واللوحة بالنسبة إليه تبدو بمثابة محطة حوارية بين الماضي والحاضر، وثنائية التراث والمعاصرة, حيث يستعيد العناصر المعمارية القديمة والرموز الشعبية، والتي يذهب من خلالها إلى إضفاء مناخية لونية محددة في اللوحة الواحدة، قائمة على ألوان هادئة ومتقاربة وغير صاخبة.
هكذا نجد عالمه متأرجحاً بين المشهد الواقعي والتخيل الرمزي, ونشاهد المرأة والطبيعة والنباتات والبحر والموضوعات المختلفة.. وكل ذلك يشير إلى تصميمه على التواصل مع بحوثه التشكيلية، ورغبته في أن يبوح بهواجسه, بصدق وأمانة, وهذا دليل واضح على أنه فنان، رغم أن العمل الإداري يأخذ الكثير من جهده ووقته، وهو يعود إلى لوحاته وألوانه ويشارك في معظم المعارض والتظاهرات الفنية الرسمية والخاصة، إضافة لدوره التربوي وعمله في التدريس الفني في كليات الفنون الجميلة والهندسة المعمارية والتربية في جامعة تشرين.
لوحاته إذاً مفتوحة على المشهد الواقعي في أكثر الأحيان, أما اللوحات الأخرى, وبعضها يعود إلى مراحل سابقة, فإنها تسعى إلى تحقيق رغبة بارزة بإطلاق الأشكال نحو الأجواء الرمزية (بالأخص لوحات المناسبات الوطنية) الجانحة نحو الصراحة اللونية, وفي لوحات أخرى لا يكتفي بتحقيق صورة الواقع, بل يعمل لإطلاق التكوين نحو السرد القصصي أو الأدبي. وبمعنى آخر تصبح اللوحة بكثافة عناصرها الإنسانية أشبه بقصة أوحكاية مستمدة من التراث الشعبي والفلكلوري.
أديب مخزوم
facebook.com adib.makhzoum
التاريخ: الخميس 17-1-2019
رقم العدد : 16887