لم تكن فدوى طوقان شاعرة عادية, ولا هي بالسيدة التي ولدت في بيت يعطي المرأة حقها وحريتها, ولايسمح لها حتى بالقراءة والكتابة, وردة نبتت في أسرة أخرجتها من المدرسة لأنها كانت قد تلقت وردة حمراء من أحد رفاقها في الصف, عانت مرارة الحياة الاجتماعية, كما تقول في مذكراتها التي صدرت منذ عقود من الزمن, وكانت قد نشرتها في مجلة الدوحة على حلقات, ثم عادت لتجمعها بكتاب,تحت عنوان. رحلة جبلية صعبة, لاقى الكتاب انتشارا واسعا ومهما, ومن ثم أعيدت طباعته مرات ومرات, وكان الرا حل رجاء النقاش قد أصدر كتابا مهما تحت عنوان صفحات مجهولة من تاريخ الادب العربي, فيه رسائل ما بين الناقد المصري أنور العداوي والشاعرة طوقان, إذ جمعتهما قصة حب, وأدب الرسائل في عصرنا الحديث لم يأخذ مداه الذي يستحقه, صحيح أن غادة السمان نشرت رسائل كنفاني إليها, وكذلك فعلت ديزي الامير مع رسائل خليل حاوي, وغيرهن من الرسائل, لكن الظاهرة ظلت قليلة قياسا إلى ما هو في الآداب العالمية.
أخبار الادب المصرية وتزامنا مع معرض الكتاب في القاهرة بدورته الخمسين, تعود إلى هذا الملف الثري والجميل وتفتح صفحاته, وهذا أمر رائع ومفيد, عله يخرج الكنوز التي بقيت حبيسة الأدراج, ويحفز من لديه الكثير من هذه النصوص الابداعية لنشرها, وما احوجنا اليوم إلى مثل هذه العودة إلى النبض الانساني, جاء في أخبار الادب المصرية:
«قد لعبوا دورهم في حياتي ثم غابوا في طوايا الزمن» الجملة السابقة ليست فقط الجملة الافتتاحية لسيرة الشاعرة فدوى طوقان، بل الجملة المفتاحية لقراءة سيرتها وأشعارها، وحتي شخصيتها نفسها.
في ٢٠١٧ تلقي الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري هدية مماثلة، وكنزا لا يقل أهمية عما تلقاه رجاء النقاش بل لعله يفوقه ندرة، فالرسائل التي تلقاها النقاش كانت من طرف واحد هو أنور العداوي، في حين اختفت الرسائل الخاصة بفدوى في ظروف سنشرحها في السطور التالية، لكن ما حصل عليه الوراري كان رسائل كتبتها فدوى نفسها بخط يدها، وهي كنز ليس فقط لندرة الوثائق الشخصية المتعلقة بفدوى شديدة الحرص والتكتم، ولكن أيضا لما فيها من إشارات لمعلومات وحكايات تنير أجزاء جديدة من حياة فدوى طوقان وإبداعها.
أما كيف حصل الوراري على الرسائل، فالحكاية كما يرويها تقول: اتصل بي الإعلامي المقيم في أمريكا الأستاذ الفاضل سمير حداد، وكان قد اطلع للتو على مقالتي عن الرسائل التي تبادلها جبران خليل جبران ومي زيادة، ولمس اهتمامي بالأدب الشخصي والسير الذاتية، فحدثني عن أخته الأديبة ثريا حداد التي اهتمت بأدب مي زيادة ودرّسته لطلبتها عندما كانت قيد حياتها أستاذة اللغة العربية لغير الناطقين بها في جامعة جونز هوبكنز، وسجل معي حلقة في برنامجه الإذاعي «شموع عربية» (الثلاثاء 18 أكتوبر 2016) الذي يذاع من ديترويت في أمر هذه الرسائل وحقيقتها وقيمتها الفنية. ثم مر وقت قبل أن يخبرني بأن أخته الأديبة كانت لها مراسلات بينها وبين شعراء وأدباء مشاهير، بمن فيهم ميخائيل نعيمة الذي اشتغلت علي شعره في أطروحتها المعنونة بـ «الأبعاد الإنسانية في أدب نعيمة»، وفدوى طوقان، ونزار قباني، وعيسي الناعوري، وروكس بن زائدة العزيزي وغيرهم. هذه المراسلات تعود إلي فترة رئاستها لرابطة راهبات الوردية في عمان منذ ستينيات القرن العشرين، حيث كانت تستضيفهم وترتب لهم أماسي شعرية ومحاضرات في الأدب والفكر، وقد استمرت إلي حين رحيلها عام 1996 بعد معاناة مع المرض.
يرسم الحب مسارات حياة فدوى طوقان. منذ بدأت الوعي بذاتها وبجسدها، منذ وصلت سن البلوغ، وتعافت من الملاريا لتصاب بلعنة الحب التي لازمتها طوال حياتها.
في طفولتها صارت تراقب تفتح جسدها بحذر تعودت عليه «لفت نظري تفتح جسدي.. وخفت.. وخجلت. وأربكني نمو الصدر الذي أصبح الآن ملحوظا، فكنت أعمل على إخفاء هذا النمو. ورحت أراقب هذا الأمر كله بحياء شديد كما لو كان ارتكاب ذنب مخجل استحق العقاب من أجله»، خوف استند على ميراث من التجاهل والعنف في أسرة عربية تقليدية ذكورية، تعقد الأمر عندما اكتشفت الحب لأول مرة، وتعقد أكثر عندما اكتشفت الأسرة هذا الحب، كان غلاما في السادسة عشرة من العمر، ولم تتعد الحكاية حدود المتابعة اليومية في الذهاب والإياب، كان التواصل الوحيد الذي تعدى المراقبة، زهرة فل مررها لها عبر صبي صغير، لكنها كانت كافية لتحل اللعنة على القصة بكاملها ولتغير مسار فدوى وتنهي كل الأشياء الجميلة، كان هناك من يراقب، ووشي بالأمر كله لأخيها يوسف »دخل يوسف علي كزوبعة هائجة: (قولي الصدق).. وقلت الصدق لأنجو من اللغة الوحيدة التي كان يخاطب بها الآخرين، العنف والضرب بقبضتين حديديتين» أصدر القاضي المنزلي حكمه بالإقامة الجبرية في المنزل، انتهت أحلام التعليم والمدرسة التي كانت تحبها أكثر مما أحبت بيتها نفسه.
وكأن حكم الحبس لم يكن كافيا، فاستمر تعذيبها عبر إذاعة سرها الصغير في أرجاء المنزل الكبير، صار الجميع يحدجها بالنظرات المتسائلة اللائمة المتشككة «وانزرعت في نفسي الغضة الطرية فكرة سيئة عن هذه النفس، خلقت في عادة السير مطأطئة الرأس لا أجرؤ على رفع عيني نحو وجوههم التي كانت تلقاني صباح مساء بالعبوس والكراهية».
الحرمان من المدرسة كان أشد ما عانته، خاصة وأن أختها «أديبة» كانت تجلس في المساء لتحضير دروس اليوم التالي، ووقتها كانت تهرب فدوى إلي فراشها لتخفي دموعها تحت الغطاء. وبدأ يتكثف لديها الشعور الساحق بالظلم, لدرجة أنها فكرت في الانتحار للتخلص من هذا الضغط «أحيانا كنت أدخل المطبخ، وأقف عند صفيحة (الكاز) وبيدي علبة الثقاب. لكني كنت أخاف الألم الجسماني ولا أطيق تحمله. وهكذا كنت أنصرف دون تنفيذ الأمر، وأنا أفكر بطريقة أخرى تكون أقل عنفا من الاحتراق بالنار. كثيرا ما خطر لي تناول السم، ولكن من يأتيني به؟ هذا بالإضافة إلى كونه يسبب آلاماً شديدة قبل الموت، وكان هذا كافياً لتحويل ذهني عنه».
كانت ترى في الانتحار وسيلة للتخلص من ظلم الأهل وضغوطهم المستمرة عليها، كان الانتحار هو الشيء الوحيد الذي يمكنها أن تمارس من خلاله حريتها الشخصية المستلبة! فقط كانت تشفق على أمها من الصدمة، رغم أن علاقتها معها لم تكن على ما يرام أيضا، كانت تفكر أحيانا في أن أمها تربط بين مقدمها وبين النحس الذي طرأ على العائلة، حيث أبعد الانجليز والدها إلى مصر منفياً عن عائلته ووطنه «لكنها على أية حال لم تكن متفرغة لي ولا مشتاقة إلي بل أسلمتني أي صبية كانت تعمل في المنزل اسمها (السمرة) لتقوم برعايتي وكان على أمي وظيفة إرضاعي فقط».
دائرة الثقافة
التاريخ: الاثنين 28-1-2019
رقم العدد : 16895