ربما يمكن القول بلا تردد إن اختراع الحرف الأول كان المسار الوحيد الذي جعل الإنسان راسخا في هذه الأرض وأعطاه عقلا قادرا على العودة إلى تاريخه الكتابي, فالشفوي ينقل ويزور ويزيف, وما إن استقر له الأمر حتى كان يقفز إلى مكان آخر, يدون مشاعره احلامه, قصصه سيره آلامه, فجاء الأدب الذي جعل اللغة لونا آخر تسمو وتكبر لتكون الهوية والنضج العقلي والفكري.
اليوم, بل ربما من عقود يطرح السؤال التالي: ما جدوى الكتابة, بل لماذا نكتب, ولمن نفعل ذلك, السؤال طرح عربيا وعالميا, وبكل الصيغ, تعددت الاجابات التي قدمها المبدعون, كثيرون كانت إجاباتهم بلا تردد: نكتب لنغير العالم, آخرون نكتب لأننا نحيا بالكتابة, وقسم آخر ك نكتب لأننا نجد فيها فعلا جماليا, لايمكن طرح الاجابات كلها بسرد واحد, ولكن لابأس أن نقطف من بستان العالم إجابات محددة كتبها مبدعون رحلوا ولنسعى أيضا نحو كتاب مازالوا على قيد الحياة والفعل,سوف نسألهم عن جدوى الكتابة, بل لماذا يكتبون ؟
جريدة اخبار الادب المصرية التي تحتفي بالعيد الذهبي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب توقفت عند ذلك السؤال, وكان أن قدم الاستاذ أحمد زناتي ترجمة واجابات عن ذلك من خلال ما قاله الروائي الايطالي الراحل اومبريتو ايكو, يقول زناتي مترجما عن إيكو وفي جريدة اخبار الادب:
على مدار ثمانية عشر فصلًا يحاول إيكو تحليل سِـرّ شغفه بعالم الأدب والكلمات، بداية من تأثير كتاب (فن الشعر) لأرسطو، مرورًا بتأملات عميقة في (الفردوس) في كوميديا دانتي الإلهية، وكذلك رؤيته لعوالم كاتبيه الأثيريْن جيمس جويس وخورخي لويس بورخيس، منتقلًا بعدها إلى موضوعه المفضل، الذي كتب عنه أغلب رواياته، وهو قـوة التزوير والكذب في صناعة الواقع، بل وكتابة التاريخ (على نحو ما نرى في روايات اسم الوردة، باودولينو، بندول فوكو، مقبرة براج وروايته الأخيرة الرقم صفر)، وصولًا إلى الفصل الأخير، وهو الأكثر تشويقًا، والذي يناقش إيكو فيه أسلوبه في الكتابة من خلال تسليط الضوء على» ظروف تأليف الروايات السابقة».
يحمل الفصل الأول عنوان: (حول بعض وظائف الأدب). هنا يؤكد إيكو على حقيقة يبني عليها أطروحاته: (الأدب هو ما يكفل بقاء اللغة حيّة في قلوب أبنائها بوصفها تراثًا جـمـعيًا، فبدون دانتي آليجيري، مؤلف الكوميديا الإلهية، لم نكن لنحظى بلغة إيطالية موحّدة) مشيرًا إلى شيوع اللهجات المحلية وتعدّدها في وقت دانتي، وافتقار الأراضي الإيطالية آنذاك إلى لغة موحّدة، يتحدّث بها أهل البلاد. يضيف إيكو: (صحيحٌ أن الأمر استغرق بضعة قرونٍ حتى تتحول اللغة التي كتب بها دانتي الكوميديا الإلهية إلى اللغة التي نتكلّم بها اليوم في إيطاليا، لكن النجاح الحقيقي يكمن في إيمان دانتي بقدرة الأدب على صون كيان اللغة. يواصل إيكو حديثه قائلًا:» من خلال المساعدة على ابتكار لغةٍ جديدة، يصنع لنا الأدب هويّة حقيقية ومجتمعًا مستقلًا».
يذهب إيكو إلى أنّ الأدب هو الذي يُبقي اللغة حيّة، فالأدب يصنع من الحكايات والشخصيات جسدًا مشتركًا، ينفخ فيه كل كاتبٍ من روحه، ويتركَ على هذا الجسد بصمته الخاصة. في الفصل الثاني بعنوان (قراءة في فردوس دانتي آليجيري) وهو قراءة في الجزء الأول من الكوميديا الإلهية كما يفصح العنوان، يعد إيكو الفردوس بمثابة نقطة مفصلية مهمّة لفهم تاريخ القرون الوسطى سواء بالنسبة للمفكّرين أم القراء.
كان إيكو قد صرّح في مفتتح الكتاب أن روح بورخيس ترفرف على فصول العمل، إذ لا يكاد يخلو فصل من إشارة ولو هامشية إلى بورخيس، الأمر الذي دفعه لأن يفرد فصلًا مستقلًا تحت عنوان (بورخيس وقلقي من التأثّر). في هذا الفصل ينقل إلينا إيكو مشاعر القلق المتزايد التي استولتْ عليه بسبب تأثير الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس عليه، وهو التأثير الذي لازمه منذ بداية رحلته مع الكتابة، وحتى الانتهاء من تأليف روايته الأولى (اسم الوردة) حيث جعل إيكو أمينَ مكتبة الدير البندكتي، رجلًا أعمى، ومنحه اسم (يورجس في إشارةٍ إلى خورخي ل. بورخيس بطبيعة الحال، فضلًا عن فكـرة المخطوط الذي عثر عليه بطل الرواية، وهي فكرة وإن كانت قديمة، لكن إيكو يقول إنّ قصة بورخيس الشهيرة (طلون، أوربس تورتيس) كان لها تأثير بالغ في أثناء كتابة اسم الوردة.
«هناك شيء واحدٌ فقط تكتبه من أجل نفسكَ: قائمة التسوّق؛ فهي تساعدكَ على تذكّر ما تحتاج شراءه، وحالما تنتهي من شراء ما تريد، يمكنكَ تمزيقها، لأنها لا تهمّ أحدًا. فيما عدا ذلك، فأي شيء تكتبه، إنما يُكتبُ لكي تقول شيئًا ما إلى شخصٍ ما».
«طالما سألتُ نفسي: هل سأواصل الكتابة لو أخبروني أنّ كارثة كونية ستدمّر العالم غدًا، وأن أحدًا لن يقرأ ما كتبته اليوم؟ أول إجابة ستقفز إلى ذهني ستكون: لا؛ ولماذا أكتبُ طالما أن أحدًا لن يقرأني؟ أما فطرتي فستقول نعم، لا لشيءٍ إلا لأنني دائمًا أتمسّك بالأمل الواهن، فقد يفلتُ نجمٌ ما من هذا الكارثة، وربما يظهر شخصٌ في المستقبل يستطيع فكّ شفرة العلامات التي وضعتها داخل رواياتي. عندها، ستصير الكتابة شيئًا ذا معنى، حتى لو سبقت نهاية العالم بساعات»..
هذا امبريتو إيكو, فماذا عن الآخرين وماذا قالوا, علينا البحث كثيرا في ثنايا الحوارات التي أجريت معهم ومن الجميل أن نبحث عما قاله محفوظ, وإدريس, وحنا مينه وسليمان العيسى وآخرون كثيرون
دائرة الثقافة
التاريخ: الأحد 3-2-2019
الرقم: 16900