مع النزوع الأميركي للانسحاب من سورية بالتقسيط غير المريح، وإدمان ترامب وبعض مسؤولي إدارته على تلاوة بيانات النصر المزيف على داعش وهمروجة القضاء على التنظيم الإرهابي واقتراب موعد تقويض ما يسمى «دولة الخلافة « وما إلى ذلك من الترهات التي شكلت عنواناً للتدخل الأميركي في سورية وأباحت له ارتكاب عشرات جرائم القتل بحق المدنيين وتدمير بلداتهم وقراهم، يبدو إصرار فرنسا التابعة ـ الحالمة باستعادة جزء من ماضيها الاستعماري الأسود من بوابة سورية ـ على إبقاء بعض قواتها الهزيلة في منطقة شرق الفرات ـ مهما كانت الذرائع ـ في ظل المعطيات الجديدة التي تصب في مصلحة الدولة السورية واستعادة أراضيها من الإرهابيين ورعاتهم، يبقى هذا الإصرار أقرب إلى مشهد هزلي وخاصة أن باريس بماكرونها الصغير أضعف بكثير من أن تكون قطباً عالمياً يزاحم الكبار على مناطق الحضور والنفوذ في ظل هشاشة الحالة الأوروبية التي يتسلق على حبالها.
في ظل هذا الحضور الفرنسي الضعيف والهش في سورية وهو المحكوم بالفشل والمغادرة مع أول هبة ريح سورية باتجاه شرق الفرات، لا شيء يمنع فرنسا من تنفيذ بعض المهمات التي جاءت من أجلها، وفي آخر الأخبار تسعى السلطات الفرنسية لاستعادة العشرات من مرتزقتها الدواعش الذين قاتلوا في جحافل دولة الخلافة لسنوات في سورية قبل أن يتم القبض عليهم من قبل مليشيات قسد والزج بهم في السجون، ولا أحد يستطيع أن يفسر هذا الحنان القسدي المفاجئ على عناصر أجنبية إرهابية جاءت إلى سورية فقط من أجل قتل الناس، والحرص على تسليمهم إلى دولهم ليعرضوا ـ حسب وزير الداخلية الفرنسي كريستوفر كاستانير ـ على القضاء، وإذا قرر القضاء ـ انتبهوا للصيغة الدبلوماسية التي تفوح منها رائحة العدالة والحرية وحقوق الإنسان ـ زجهم في السجن سيتم وضعهم في السجن، ولا أحد يعلم ما إذا كان هذا القضاء الفرنسي المسيَّس بالضرورة كما هو حال الاستخبارات الفرنسية سيطلق سراحهم، لنعود ونراهم مع زملاء لهم من أربع جهات الأرض يقيمون «دولة الخلافة» في مناطق أخرى تخدم الأجندات الأميركية والفرنسية وغيرها من الأجندات الغربية التي تلتقي تارة وتفترق تارة أخرى.
لم يقل وزير الداخلية الفرنسية لماذا أخلي سبيل الكثير من الدواعش الذين عادوا من سورية عبر تركيا إلى فرنسا في المرات السابقة بعد أن ارتكبوا ما ارتكبوه ضد السوريين من جرائم وانتهاكات، وفيما بعد ارتكبوا جرائمهم في عقر دار هولاند وماكرون، لتكون هذه الجرائم مسوغاً قانونياً لشن غارات في سورية لم يسقط فيها سوى المدنيين الأبرياء كما هي حال جرائم التحالف الأميركي المستمرة منذ أكثر من أربع سنوات بالمبرر الداعشي إياه.
تقول مصادر فرنسية مطلعة إن عدداً من الإرهابيين الدواعش الذين تنوي فرنسا استعادتهم ـ على نية المحاكمة المفترضة ـ قد تمت متابعتهم من قبل الأجهزة الأمنية الفرنسية إضافة إلى أن بعض الوجوه معروفة لدى تلك الأجهزة، ولم تقل تلك المصادر ـ وهي تعلم الحقيقية وتتجاهلها طبعاً ـ أن هذه الوجوه الارهابية جاءت إلى سورية بإشراف الأجهزة الأمنية الفرنسية لتنفيذ مهمة محددة وهي تدمير سورية وقتل إنسانها ونهب حضارتها وثرواتها وقد انتهت الآن هذه المهمة بغض النظر عن نجاحها أو فشلها، ومن الطبيعي أن تتم استعادتهم لدفن أسرار مهمتهم القذرة، ولا نعلم ما إذا كان سيجري تكريمهم في الإليزيه على «جهادهم» في سورية، ويستقبلون من قبل ماكرون وزوجته وحكومته بحفاوة بالغة كما كان يتم استقبال بعض «المعارضين» السوريين الذين كانت أيديهم ملوثة بدماء الأبرياء، بعد أن اصطفوا طويلاً وعلانية خلف داعش وجبهة النصرة وباقي التنظيمات الارهابية باعتبارها «منظمات ثورية» حتى لحظة انتهاء صلاحيتها..؟!
يضيف كاستانير في حديث تلفزيوني له بهذا الخصوص..»الأميركيون ينسحبون من سورية وهناك أشخاص في السجن محتجزون بسبب وجود الأميركيين هناك وسيفرج عنهم وهم سيرغبون في العودة إلى فرنسا»، لكنه لم يفصح عن السبب الذي يبقي الفرع الرسمي من داعش «أي الجنود الفرنسيين» في شمال سورية وما هي المهمة التي سيكلفون بها في المستقبل، بعد أن انتهت الذريعة التي جاؤوا على أساسها أي حماية داعش الوكيل في المرحلة الأولى ومن ثم التذرع بمحاربته في المرحلة الثانية من أجل التدخل في سورية وحجز مناطق نفوذ تحت جناح السيد الأميركي الذي قرر أخيراً أن يضع حداً للعبة الداعشية في سورية بعد أن تعفنت رائحتها.
من الواضح أن باريس حريصة كل الحرص على استعادة بضاعتها الفاسدة من سورية ودفن أسرارها معها، ولكن كان الأجدر بها أن تسحب قواتها أسوة بما يفعله الأميركيون من دون إبطاء، إذا لا يوجد أي معنى لمحاولة المسؤولين الفرنسيين الادعاء بأنهم ينتهجون سياسة مستقلة عن واشنطن، لأن فرنسا الحالية غير تلك التي كانت أيام نابليون ولا مبرر للتذاكي على أحد.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الأحد 3-2-2019
الرقم: 16900