برنامج القرى الصحية ..استراتيجية متكاملة بأبعادها النفسية والاجتماعية والاقتصادية

في كل مرة نحاول فيها تسليط الضوء على بعض البرامج التنموية الخدمية بأي قطاع من القطاعات الأساسية في الدولة نكتشف الى حد كبير حجم العمل والجهد المبذول من قبل هذا القطاع وتلك الجهة .لندرك حينها أن دولة المؤسسات كانت ومازالت وستبقى قادرة على العطاء والتمكين والبحث عن تقديم الأفضل وإن كان ترميم ما تم هدمه يحتاج لأضعاف مضاعفة من الوقت والجهد والخبرات والمال.لكن الإرادة والإيمان من قبل القائمين على مواصلة العطاء كفيلة بأن تترك للتفاؤل مساحة وافرة من السلامة والأمان.
ففي هذه السطور نحاول أن نرصد في رحلة البحث عن فلسفة وجوهر برنامج القرى الصحية ودوره في تعزيز صحة المجتمع التابع لمديرية الرعاية الأولية «وزارة الصحة»فإننا نقف على حدود عمل مجتمعي متكامل بدأ منذ عام ١٩٩٦-١٩٩٧ بثلاث قرى في محافظات درعا ريف دمشق السويداء وبدأ يكمل مساره حتى تجاوز ال٥١٣ قرية قبل الأزمة على مستوى مساحة القطر ؛ليتابع عمله اليوم لما يقارب ال ٢٠5قرى .فهو برنامج صحي مجتمعي، يديره المجتمع،ويموله جزئيا بغية تحسين أوضاعه الصحية والمعيشية .
عن دور البرنامج والمساحة التي يشغلها تؤكد الدكتورة غمار عادل اسماعيل رئيس دائرة القرى الصحية مديرة الرعاية الصحية الأولية «وزارة الصحة «في حديث للثورة أن الهدف الرئيسي للبرنامج هو تقوية وتأهيل وتدريب أفراد المجتمع المحلي لتحديد أولويات القرى واحتياجاتها بشكل منهجي ،والعمل على إنجازها لتحقيق الأهداف الصحية،ومتطلبات التنمية مستندا بذلك لمبدأ الاعتماد على الذات تعزيزا لدور المجتمع في قيادة عملية تطوير واقعه وتحسين نوعية حياته فهو لا ينطلق من كونه قطاعا صحيا بالمعنى الصحي لمفهوم المشافي والمراكز بل يتجاوز مفهوم الصحة المفهوم البيولوجي المحدد وصولا إلى صحة كافة مكونات المجتمع أفرادا وجماعات وعلاقات اجتماعية وتنظيمات رسمية ومؤسسات بحيث يكون الجميع قادرا على المشاركة في عملية التنمية كي تطال ثمار التنمية الجميع،على اعتبار أن الصحة رأس الحربة للتنمية.
فحوى البرنامج هو التأكيد على صحة الفرد والأسرة والمجتمع وفق محددات عن طريق خلق تنظيم على المستوى الفني والإداري للتنسيق بين مختلف العناصر والمؤسسات التي يجب أن تلعب دورا في تحقيق الصحة للجميع وهذا يتطلب دعم الجهات العامة بكافة قطاعاتها والمنظمات الشعبية والحزبية في مستوياتها المختلفة أي انه يعمل على أسس ومحددات مرتبطة بشرائح اجتماعية أشمل من تلك التي يعمل عليها المركز الصحي.
وبينت الدكتورة اسماعيل أن الاستراتيجية التي تتبناها وزارة الصحة في هذا الخصوص هي استراتيجية متكاملة تعنى بالصحة بكل أبعادها ومحتوياتها المرضية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية والبيئية كما تعتني بالفرد ومؤسساته الاجتماعية «أسرة مجتمع , سكن ,عمل»وكل ما يتعلق بسلوكياته والمؤثرات المختلفة التي تحدد نوعية حياته.
والقرية الصحية هي القرية التي تكون كل مكوناتها صحية «أفراد ،بيئة،تنظيمات ،مؤسسات،مزارع،حظائر،مدارس،عادات وتقاليد،اخبار ومعلومات،والتي تستطيع أن تحافظ على هذه الحالة بثبات تطورها.
ولعل الأبرز في عمل برنامج القرى الصحية هو لجان التنمية التي تنتخب من قادة المجتمع ليكونوا مؤثرين بتحقيق أهداف البرنامج وفلسفته و الشخص المؤثر هو المختار ،مدير مدرسة ،مسؤول حزبي أو سياسي حسب مفتاح كل قرية .حيث يلعب مجلس تنمية القرية دورا بعقد الاجتماعات واختيار الاولويات فبعض القرى قد تحتاج لمدرسة وأخرى لمكب قمامة وأخرى لصرف صحي وغيرها من الأمور الخدمية .فالمدرسة ترفع مستوى الوعي وتحسن الدخل وتحافظ على البيئة وفق المحددات الاجتماعية للصحة وهذا يتطلب من الأهالي تقديم جزء بالمشاركة مع الجهود الحكومية ،ودور المواطن أن يشارك الدولة ببناء المجتمع.
معايير اختيار القرية
وبينت الدكتورة اسماعيل أن معايير اختيار القرية الاولى أثناء تنفيذ البرنامج يتطلب بعض الإجراءات والشروط من حيث التركيز على القرى التي تحتاج لتحسين أوضاعها الصحية والعامة أكثر من سواها والتي تتوفر لديها في الوقت ذاته الإمكانيات والظروف الأفضل لنجاح البرنامج واستمراريته والتي من أهمها افتقار القرية للتنمية الصحية والخدمات الضرورية الأساسية بشكل واضح ،أن تكون ذات عدد محدود من السكان(١٥٠٠-٣٠٠٠)نسمة كي يسهل التعامل مع مشكلاتها، وتأمين احتياجاتها الأساسية وقيادتها بنجاح من قبل لجنة تنمية القرية .أن تكون ذات مستوى مناسب من التنظيم والانسجام الاجتماعي،سهولة الوصول إليها بوسائط النقل المتوفرة،تقبل السكان للبرنامج وإبداء رغبتهم واستعدادهم للعمل والتعاون في سبيل ذلك.ومن ضمن المعايير التي أشارت اليها مديرة البرنامج توفر موارد مناسبة يمكن الاستفادة منها في عملية تطوير القرية (مادية وبشرية)والأهم وجود عناصر نشيطة ذات تأثير في المجتمع ومتحمسة للبرنامج ومنهجيته.أن يتوفر في القرى الحد الأدنى من المؤسسات الخدمية ،مدرسة وحدة صحية .موافقة السلطات ذات العلاقة على اختيار القرية لتأمين الدعم اللازم لها مستقبلا.
طريقة الاختيار
لابد من القيام بزيارات ميدانية للقرية ،والاجتماع مع قياداتها لمناقشة موضوع إدخال البرنامج إليها بعد التعرف على واقعها الاجتماعي والاقتصادي ،وأخذ موافقة ممثلي القطاعات والجهات المعنية ،والتعاون مع القادة المحليين وممثلي السكان لترويج البرنامج بين الناس وتوضيح أهدافه وإقناعهم لتنبيه وبيان ما يترتب على ذلك من مهام ومسؤوليات.
تنظيم القرية حسب الدكتورة اسماعيل يتم من خلال ترقيم المنازل وتقسيمها إلى أحياء يضم كل منها ١٠-١٥ منزلا،مع اختيار شاب وفتاة ممثلين لكل حي ،كما يتم تشكيل هيئة تنمية القرية من ممثلي الأحياء وممثلين عن المنظمات الشعبية ومعلمي المدارس والتنظيم الحزبي و الأشخاص ذوي التأثير في القرية والمتخصصين للعمل العام.وبينت رئيس دائرة القرى الصحية أهمية انتخاب لجنة تنمية القرية من بين وأعضاء هيئة تنمية القرية ومن العناصر النشيطة والفعالة فيها.ويعزز ذلك تشكيل اللجان التخصصية كلجنة الصحة والتعليم والزراعة والبيئة واحداث لجان فرعية عند اللزوم.
وحول مبادئ واستراتيجيات البرنامج تشير الدكتورة اسماعيل ان النظرة الشمولية العامة هي محصلة عمل مشترك بين جميع القطاعات،وأن التنمية الصحية هي جزء من عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ،في حين تنبع أهمية البرنامج من خلال اعتماده وتقبله من قبل المجتمع وتحمله المسؤوليات المترتبة على تطبيقه،حيث يختار الناس ويحددون احتياجاتهم بأنفسهم، ويعملون على تنفيذ النشاطات والمشاريع التي تحققها،فيما تقوم الجهات العامة من خلال القطاعات المختلفة بتقديم الدعم الفني والإداري والمادي.
وأضافت أن مبررات البرنامج تنطلق من أن سكان الريف يشكلون ثقلا كميا في الديموغرافيا السورية، ويعمل معظمهم في الزراعة،إضافة لوجود عدد كبير من خريجي المعاهد والجامعات العاطلين عن العمل ما يجعل من برنامج القرى الصحية ضرورة صحية تنموية .
مبررات وطنية
اما المبررات الوطنية فإنها تنطلق من الالتزام السياسي بتحقيق هدف الصحة للجميع،بالتنمية الشاملة ذات المضمون الاجتماعي ،والأمر الآخر هو تنظيم المجتمع وتوفير الخبرات الإدارية والتنموية لدى الجهات المعنية في جميع المستويات المختلفة .لان الحاجة تتطلب تطوير الخدمات الصحية وتوسيع تغطيتها ووصولها إلى جميع القرى لاسيما ذات الاحتياجات الخاصة.
ولعل الأهم هو دعم وحماية البيئة من خلال التدريب على الإصحاح السليم وتنفيذ أنشطة تتضمن حملات التشجير وتطوير وتطبيق المجتمع لخطط تأمين مياه الشرب والصرف الصحي والتخلص الآمن من النفايات.
ثلاث خطوات
ينفذ البرنامج عبر ثلاث خطوات،أولها تحديد المشكلات والأولويات في القرية من قبل السكان أنفسهم. ثانيا تحديد دور المجتمع والدولة في إنجاز هذه الاولويات بوجه عام،ويتم بمشاركة كافة القطاعات العامة .ثالثا تقسيم الأنشطة والمشاريع التي تحقق كل أولوية إلى عدة مراحل بحيث يقوم مجتمع القرية بتنفيذ بعض هذه الأقسام بإمكاناته الذاتية، والبعض الآخر ينفذ من قبل الدولة كاملا،لأنه فوق طاقة المجتمع،وأقسام أخرى تنفذ بالتعاون بين الدولة والمجتمع .
توزع القرى الصحية
تتوزع القرى الصحية على كامل مساحة الوطن فقبل الأزمة كان عددها في كل محافظة على الشكل التالي :
حماة ٧٣ قرية العدد الفعلي حاليا ٤٦و٢٧ قرية غير فعالة.
اللاذقية ٧٧ قرية قبل الأزمة..العدد الفعلي حاليا٧٥..قرية غير فعالة.
حمص ٥٣ قرية قبل..٢٥ قرية حاليا مع إضافة قرية واحدة جديدة..و٢٩ قرية غير فعالة.
ريف دمشق ٢٧ قبل..العدد الفعلي حاليا ٢٠ و٧ قرى غير فعالة .
طرطوس ٣٣ قرية قبل..العدد الفعلي ٢٢ قرية زائد قريتين جديدتين..و١٣ قرية غير فعالة .
درعا ٢٥ قرية قبل الأزمة. العدد الفعلي حاليا ه قرى..و٢٠ قرية غير فعالة .جميع القرى غير الفعالة حاليا لاتعمل بمفهوم القرى الصحية نظرا لظروف الحرب وتداعياتها السلبية على المجتمع .
وذكرت الدكتورة اسماعيل أهم النشاطات الداعمة للبرنامج وهي التدريب والتمويل مع التنسيق والدعم القطاعي وتأمين نظام المعلومات.مشيرة إلى أن عمل برنامج القرى في بعض المحافظات والمناطق قد توقف عن العمل نهاية، العام ٢٠١١ – ٢٠١٢لتوقف التمويل من المنظمات الدولية الداعمة الأساسية للبرنامج كمنظمة الصحة العالمية ،اليونيسيف الاتحاد الاوروبي مؤسسة الآغا خان حيث كان العمل كبيرا مع الأخيرة ما ساعد على تمويل مشاريع كثيرة لأبناء المجتمع المحلي من خلال توزيع القروض. لكن ظروف الحرب أرخت بظلالها الثقيلة ما جعل العمل صعبا جدا في بعض المحافظات، فيما بقي مستمرا في بعض المحافظات الاخرى كاللاذقية وطرطوس والسويداء. لافتة أنه بعد اقتصار التمويل على الدعم الحكومي فإن الأولوية لدى وزارة الصحة وجهت لرعاية الطفل الوليد في المنزل كاستجابة ثنائية تعمل عليها الوزارة ،إضافة للتركيز على منهاج الصحة المدرسية والمنزل الصديق للطفولة وغيرها الكثير من القضايا الملحة الأخرى .
صعوبات
ومن أكثر الصعوبات إعاقة للعمل برأي اسماعيل هو عدم وجود التمويل الكافي من كل الجهات لإعادة تأهيل الكادر المطلوب من المتطوعات الذي يحتاج الكثير من الجهد والمال . مقترحة بلغة التمني أن تصبح مديرية الرعاية الصحية الاولية هيئة مستقلة كونها تعمل على تنمية الريف بغية تقليل الفروقات مابين الريف والمدينة من حيث ايصال الخدمات .
يذكر أن منهج الرعاية الصحية الأولية اعتمد منذ عام 1978 على الصعيدين الدولي والوطني لبلوغ هدف الصحة للجميع عام 2000 وبرنامج القرى الصحية يطبق على مستوى الاقليم « سورية ، لبنان ,مصر, الاردن ، ايران ، ويعمل ضمن خطة توسع أفقية وعمودية حسب سياسة كل دولة وحاجة قراها ومدنها .
غصون سليمان
التاريخ: الأحد 17-2-2019
رقم العدد : 16911

آخر الأخبار
المركزي يصدر دليل القوانين والأنظمة النافذة للربع الثالث 2024 تحديد مواعيد تسجيل المستجدين في التعليم المفتوح على طاولة مجلس "ريف دمشق".. إعفاء أصحاب المهن الفكرية من الرسوم والضرائب "التسليف الشعبي" لمتعامليه: فعّلنا خدمة تسديد الفواتير والرسوم قواتنا المسلحة تواصل تصديها لهجوم إرهابي في ريفي حلب وإدلب وتكبد الإرهابيين خسائر فادحة بالعتاد والأ... تأهيل خمسة آبار في درعا بمشروع الحزام الأخضر "المركزي": تكاليف الاستيراد أبرز مسببات ارتفاع التضخم "أكساد" تناقش سبل التعاون مع تونس 10 مليارات ليرة مبيعات منشأة دواجن القنيطرة خلال 9 أشهر دورة لكوادر المجالس المحلية بطرطوس للارتقاء بعملها تركيب عبارات على الطرق المتقاطعة مع مصارف الري بطرطوس "ميدل ايست منتيور": سياسات واشنطن المتهورة نشرت الدمار في العالم انهيار الخلايا الكهربائية المغذية لبلدات أم المياذن ونصيب والنعيمة بدرعا الوزير قطان: تعاون وتبادل الخبرات مع وزراء المياه إشكاليات وعقد القانون تعيق عمل الشركات.. في حوار التجارة الداخلية بدمشق بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة