قد يمضي بعض الوقت قبل ان يعود الفنان التشكيلي «سهيل بدور» إلى منزله في حي الشعلان..!
وقد يمضي وقت آخر قبل أن نعود الى تلك الجلسة المؤثرة.. وسط الحي الدمشقي العريق, حيث تحيط بنا محلات لانعرف نكهتها..!
على الباب استقبلنا بعفوية ومرح مرحباً.. صالون بيته الابيض الأنيق, يشعرك بدفء غريب, حيث يمتلئ بروائح فن لايخذلنا نحن عشاق الفنون.. ما إن تبدأ أولى كلماتك نحو حديث ممتع, يتأرجح في مختلف الاتجاهات رغما عنا.. بينما الحاضرون ينصتون باستمتاع لبريق كلماته..
كلما دخلت معه الى سؤال ما.. تسبقه حركات يديه, وانفعالات صوته.. وصدق كلماته, حتى بالكاد يتمكن من ضبطها, هو الهارب الى انفلاتات فنية.. لانهائية.. يحرص على ان تكون جواز سفره الإبداعي.. الى مدن حمل عبرها لوحته ليبرز الفن السوري أينما حل..
مرانه اليومي لمدة عشر ساعات وربما أكثر على تعرية تلك الوجوه لتكشف قبحا قد لانتلمسه إن كنا عابرين.. أعطاه فلسفة فنية وأسلوبية استقبلتها ملتقيات عربية وعالمية باحتفاء يليق بفناننا الذي يستمد عراقة لوحاته من رائحة الارض وملحها..
أكثر من «35» ملتقى عربياً وعالمياً تعرف على لوحاته ووجوهه المتكسرة تارة.. او المشوهة في احيان كثيرة بألوانها الفرحة, التي تحتفي بالحياة كصاحبها رغم كل المعاناة التي لاتزال ذكراها طازجة.. تختط معالم خاصة لتجربته الفنية, تجعلها تنحو في العمق.. الى أسلوبية بامكانها تذوقها والاحساس بها.. حتى لو لم تكن من مدمني الألوان.. في وقفتنا معه.. أخذنا الحديث إلى مسارب فنية عديدة..
– تمتلئ لوحاتك بوجوه مكسرة, متقلبة, تعابير غريبة.. هل تعتقد ان المتلقي يمكنه تذوقها؟
— أتمنى أن يتذوقها..!
لوحاتي تعبيرية-تجريدية, أشتغل فيها على تحوير اللوحة, في العمق شخصياتي تتصارع, فيظهر وجعها الداخلي, لينعكس وجوهاً وتعابير مشوهة, بالمعايير التشريحية الدقيقة.
لم تعد مهمة الفن التسجيل, الصورة الفوتوغرافية, أصدق بما لايقاس, ولا يمكننا مضاهاتها, مع انني رسمت الكثير من البورتريهات, لكنني أرى الفن على نحو مغاير, صحيح انه فن واضح وسهل, ويمكن أن يجذب المشاهد, لكنه غالبا يفتقر للإبداع.
– هل يوجد دلالات أو مفاتيح معينة, ترسلها للمتلقي؟
— إطلاقا, على العكس انا أشتغل لوعيي, لثقافتي, لفكري, لتجربتي, لكن أراهن أننا في الحد الأدنى نتذوق الفن, ليس بالضرورة أن نفهمه, الفن لايشرح, ولكن عندما تقتربين من اللوحة, تشعرين أنها تنتمي لك أو لاتنتمي, الفن له علاقة بمساحة الروح.. وبسريتك الداخلية.. وبأوجاعك المقيمة..!
ارسال دلالات معناه أنك توجهين المتلقي لأمر ما, قد تأسرين ذوقه, أنا أريد ان يرى مايشعر به, دون اي قيود حتى لو كانت من الفنان نفسه..!
– ولكني شعرت أنه يوجد دلالات معينة تميز لوحاتك.. مثل تواجد الموسيقا, الأنثى, الألوان الدافئة..؟!
— انه المفتاح السري, أشتغل على ثيمة (المرأة, الانتظار, الموسيقا..) مع مرور الوقت بت أدرك من سيرى لوحاتي, فأحرص على أن يراها دافئة, في زوايا عديدة, لو اقتربت من لوحاتي, سترينني داخلها, أعزف, أنتظر.. أترقب.. أتألم!
– ردة فعلك على الحرب على سورية, أتى من خلال جداريات الحرب الأربع..؟
— لم أصدق مايحدث, مع اني كنت أزور سورية في فترات متقاربة وأرى ما تعيشه, أردت التعبير بشكل مختلف, فرسمت أربع جداريات, أسميتها سوناتا وجع وطن, لكنني سأنتقل الى حالة فنية أخرى, فالجداريات الأربع لاتكفيني للتعبير عما حل بنا..!
– كل هذا الخراب, كيف أثر بك كإنسان, وكيف تعاملت معه كفنان..؟
— ماعشناه.. أوجع روحي.. لم أكتف بالجداريات الأربع, بل انتقلت للكتابة, لقد ضاقت مساحة اللوحة من عمق الألم, فاتجهت للكتابة.. لأنني أتفاعل مع الحدث بألم وحساسية, فكيف اذا كان هذا الحدث يمس وطني, وأهلي, وأصدقائي.. إنه كسر رهيب, مابعده كسر..!
– بعض الآلام تسد علينا منافذ الحياة, ماذا تفعل حينها..؟
— حتمية الحياة ومنطقها يفرض علينا الاستمرارية في أقسى الظروف وأفظعها, حتى لو كنت موجوعاً, أعلن حضوري في الحياة في لحظات الألم والفرح والأرق…خبرة الحياة تعلمنا الى أي الاتجاهات نذهب لنضمن نوعا من السلام..
– وأنت تتجول من بلد الى آخر.. حاملا لوحاتك.. هل تتعارك مع انتمائك او تعاندك الذاكرة..؟
— أنا لاأخون ذاكرتي.. وأتمسك بانتمائي.. انا ابن هذه الذاكرة, ليس لدي رغبة بالتلون أمامها, أو ان يستثمر أحدهم هذا الوجع وينزعني من هذه الذاكرة, انا لاأخون أمكنتي.. انها الحصانة التي أستند اليها.. والمنصة التي أقف عليها لأستمر..!
– هل علق في ذهنك مكان ما, وحاولت أن تقصيه..!
— أبدا..! أنا لاأقصي امكنتي, لاأتخلى عنها, ولاأندم على شيء, ولاأتراجع.. ولا حتى أنسحب من كل مافعلته..!
رغم وجود الكثير من الاشياء التي خذلنا بها, وأوجعتنا, لكنها الحياة, انا بطبعي لا أنتظر السهل في أعمالي الفنية.. كالنحت مثلا لاأختار الخامات المستسلمة, كالطين والصلصال والجبصين.. بل أتجه الى مواد حادة أقارعها لأنتشل منها شكلا فريدا..!
– الفيديو آرت, أو البوب آرت.. الفن المفاهيمي.. الانستليشن.. كلها عناوين لدخول الفن التشكيلي عالم التكنولوجيا, كيف ترى تأثيرها على الفن التشكيلي..؟
— في البداية كنت ضدها, لأنني كنت أفكر بكلاسيكية, ولكن تجوالي الدائم, جعلني أرى فيها فضاء ابداعيا يحتاج الى ذهن متقد, وفكر مبدع.
لن نتمكن من معاداة أي نوع فني يتواجد بقوة على الساحة الفنية, من المهم فهم ايجابياته كونه جزءا من ثقافة يراهن عليها المشتغلون في المجال الفني, باعتبارها نوعا من أنواع الفنون الحديثة..
لابد من توسيع دائرة الرؤية وتقبل فن الآخر, حتى لو لم يعجبني..!
– يوما اثر آخر.. يتعمق انسحاب المثقف, يتضاءل دوره و قدرته على التفاعل مع الناس..؟
— يؤسفني القول إن الكثير من المثقفين تركوا البلد وانسحبوا, منذ بداية الحرب, اذا اتفقنا على أن المثقف هو الذي يبحث ويشتغل على النهوض بالمجتمع فكريا, وإنسانيا, ومعرفيا, ويحاول التغيير للأفضل..!
اذاً ماالذي كانوا يفعلونه طيلة الوقت, مجرد كلام في الهواء..!
ما إن حانت لحظة الجد, ومقارعة هذه التنظيرات واقعيا, حتى انسحبوا, انه أمر مهين, وترك فراغا فكريا, يعاني منه مجتمعنا.. خاصة في ظل هذا التخريب الممنهج الذي نعيشه, دون وجود مرجعيات فكرية وثقافية, تمتلك القدرة على التفاعل والتأثير بالناس..!
– هل ترى أن اللوحة في مأزق اقتصادي..؟
–اللوحة تعيش في ازمة اقتصادية عالمية.. الفن التشكيلي صناعة, من هنا تأتي اللوحة في مرتبة تالية قد تكون ثالثة او رابعة, هناك أمور عديدة تسبق تسويق اللوحة, منها معرفة الفنان بالبيع والتسويق لنفسه..
بدلا من ذلك نحن نشتغل على الوجدانيات لبيع اللوحة..
لدينا.. الازمة جعلت اللوحة في مأزق كبير, أغلقت منافذ التسويق, والالتقاء مع تجارب أخرى, فصارت الاعمال تدور في دائرة مغلقة, تتشابه فيها التجارب, وقد تفقد قدرتها على الابتكار, مع وجود استثناءات لايخفى على أحد اهميتها.
– كيف ترى الحركة التشكيلية السورية؟
— نشاط كبير.. كم من المعارض, من الواضح ان التجارب الشابة خلاقة, يفترض فسح المجال لها..!
جيلنا أخذ فرصته وترك بصمته, ولايمكن الغاؤه, لكن تلك التجارب الشابة تستحق أن تكون حاضرة في المشهد التشكيلي السوري, بما يليق بها.
كلما زرت سورية, أتابع المعارض, لاحظت مشكلات عديدة منها الحضور, يمكن أن نطلق عليه (تجمع اجتماعي), لكننا نفتقد لجمهور يتفاعل مع الحركة التشكيلية, أعتقد اننا لسنا في مرحلة مضيئة في التجربة التشكيلية السورية..!
– أمر آخر.. يفترض ان تكون مؤسسات الفن التشكيلي أهم داعم للفنان, بعيدا عن الشللية والمحسوبيات.. فهل تفعل, وتحمي الفنان..؟!
— الفنان السوري يعاني, وسعر لوحته مقارنة بفنه وجهده, زهيد, تستغل حاجة الفنان.. نحتاج الى تضافر جهود مختلف الجهات الرسمية التي تعنى بالفن التشكيلي لتشكل غطاء يدعم ويحمي جهد الفنان..
حوار: سعاد زاهر
soadzz@yahoo.com