سعة أفق وإبداع يتجاوز المحلية ليفرد جناحه عبر نصوصه وأعماله ليتربع على أغلب مسارح الوطن العربي. إنه الكاتب والناقد والمخرج المسرحي فرحان بلبل الذي يدهشنا كل فترة بإبداع جديد كان لنا معه وقفة. بحوار شيق ليحدثنا عن أعماله الإبداعية:
– كيف كانت بدايتك الإبداعية؟ وما هي أسباب انتقالك من الأدب العربي إلى المسرح؟ وهل هذا الانتقال نتيجة دراسة أكاديمية؟
— بدأت حياتي الأدبية شاعراً وقصاصاً وناقداً, وكان ذلك حوالي عام 1964, فجأة – ومن دون أي توجيه من أحد – شعرت أن ميداني الحقيقي هو المسرح, لكن معلوماتي المسرحية لاتزيد عن شذرات درسناها في الجامعة, أي أنني كنت جاهلاً جهلاً تاماً بهذا الميدان الذي نويت الدخول فيه, ولهذا هجرت كل النشاطات الأدبية وعكفت على دراسة المسرح.
وبقيت على هذه الحال أربع سنوات, فلم أترك كتاباً ترجم إلى العربية عن فن المسرح وعن أصول كتابته إلا قرأته, وترافق ذلك بقراءة واسعة للنصوص المسرحية الأجنبية والعربية.
وكتبت خلال هذه السنوات الأربع أكثر من خمسة عشر نصاً مسرحياً مزقتها كلها لأني اعتبرتها تمارينَ تشبه قرزمة الشاعر قبل أن يتمكن من صناعة الشعر, وعندما كتبت مسرحية (الجدران القرمزية) عام 1969، عرفت أنني بدأت أمتلك ناصية هذا الفن, فبدأت بإخراجها.
لكنني أدركت أنني لا أعرف شيئاً عن فن الإخراج, فعكفت أربع سنوات أخرى أقرأ عن فن الإخراج والتمثيل, وكنت أسافر إلى كل مدينة – وخاصة دمشق – لمشاهدة العروض المسرحية, وألتقي مع المخرجين أسألهم عن سر صناعة الإخراج, وهنا أعترف بأن المخرجين السوريين في كل مدن سورية كانوا أساتذتي, وعندما شعرت أنني صرت قادراً على الدخول في الإخراج المسرحي قمت بإخراج مسرحيتي (الحفلة دارت في الحارة) عام 1972.
ومازلت حتى اليوم أتابع وأقرأ وأتعلم, وأنت تعرفين موقعي في المسرح العربي اليوم, فماذا تسمين هذا الإصرار على الاستكمال العلمي لهذا الفن في جوانب تاريخه وتطوره ومدارسه واتجاهاته وأصول كتابته وقواعد التمثيل والإخراج فيه؟ هل هي دراسة أكاديمية؟
-من المعروف لدى النقاد أن نصوصك التي كتبتها أو التي أعددتها ثم قمت بإخراجها، كانت مرآة لبيئتك. ما مدى صحة هذه المقولة؟
— أنا واحد من جيل الكتاب العرب الذين اعتبروا المسرح – استناداً إلى تاريخ المسرح العريق – ابن مرحلته ويعالج هموم وآلام وطموحات المجتمع الذي نشؤوا فيه على أن تكون هذه المعالجة مسبوكة بشكل فني متقن ولو راجعنا المسرحيات التي عبرت الزمن إلينا من مختلف العصور، لوجدناها جميعاً تعالج قضايا المجتمع الذي كُتِبت فيه, ولأن المسرح فن، كان يدافع دائماً عن الحق والخير والجمال, وهذا ما حاولت أن أفعله فمسرحياتي وأعمالي كانت نشيداً عالي النبرة للدفاع عن الحق والخير والجمال. وهذه الأركان الثلاثة تعني عندي أن يكون الوطن شامخاً وأن يتمتع المواطن العربي بحقه في الحياة الكريمة,فهاجمت ما هاجمت من أمور السياسة والمجتمع والأخلاق, وغضبت مما هاجمته وغضب الجمهور معي, ودافعت ما دافعت عما أراه طريقاً إلى الحرية والكرامة والنقاء. وأيدني الجمهور, لكن ذلك لم يكن له قيمة لولا أني وضعته في صيغة فنية رأى النقاد أنها مُحكمة, ولعلك لا تعلمين أنني جوبهت بالهجوم العنيف الذي كان يصل أحياناً إلى حد الشتائم، كما تلقيت التأييد العارم الذي يصل إلى حد خروج الجمهور وراءنا بعد انتهاء العرض المسرحي في مواكبةٍ للفريق المسرحي مصحوبةٍ بالزغاريد. والذي جرى معنا في بعض العروض وفي أكثر من مدينة أكبرُ مما جرى مع مسرحية (هرناني) لفيكتور هوجو عندما عُرِضت أول مرة في باريس عام 1830.
– هل حضرت القضيةُ الفلسطينية في أعمالك؟
— حضرت بقوة, فأول مسرحية قُدِّمت لي – وكانت من إخراج المخرج المصري محمود حمدي – دارت حول القضية الفلسطينية من خلال أسرة فلسطينية هاجرت إلى سورية, وقد أثارت المسرحية بعد عرضها عاصفة من النقد المتوتر, وكانت بداية انعطاف في حركة المسرح في حمص, وكان لجملة العم أحمد – وهو أحد شخصيات المسرحية – وقعُ الصاعقة, وهي: (أعداؤنا سلبونا أرضنا, لكننا نحن الذين حميناها لهم نحن الذين أقمنا بيننا وبينهم جدراناً تحميهم وتمنعنا من العبور إليهم إنها أموالنا وأنفسنا).
ودارت مسرحية (العيون ذات الاتساع الضيق) – وأخرجها المرحوم فوزي السيد وقدمناها عام 1971حول القضية الفلسطينية بشكل رمزي. فثمة أسرة أخذت تخسر أرضها بتصرفات أبنائها وفسادهم. ودارت (العشاق لا يفشلون) – وقدمناها بإخراجي عام 1977- حول أسرة فقدت ولدها في حرب 1973، وقدمت معنى جديداً لحرب العدو وهو ضرورة على الفساد لكي لا يضيع دم الشهيد, وقد جُلنا بهذه المسرحية في أنحاء سورية من دمشق إلى الجزيرة, وبلغ مجموع عروضها أكثر من 80 مرة.
وخلال الأزمة في سورية الحالية كتبت مونودراما (أنا الآخر) وتدور حول القضية الفلسطينية, وأرجو أن تسمح لي الظروف بتقديمها.
– قُدِّم الكثير من مسرحياتك في عدد كبير من الأقطار العربية، فهل يعود السبب أنك لامست أوجاع الوطن العربي؟
— رغم اختلاف المجتمعات في الأقطار العربية, فإن العرب تشغلهم موضوعات عامة واحدة. وهذا هو السبب الأول في هجرة المسرحيات العربية – والسورية والمصرية على الخصوص – إلى عدد من الأقطار العربية سواء كان ذلك عن طريق المطبوعات أو على سبيل تقديمها كعروض مسرحية.
والسبب الثاني: أنها مكتوبة بالفصحى وهي اللغة التي يفهمها العرب جميعاً مهما تباينت لهجاتهم. أما السبب الثالث: وهو الأهم – فهي أن هذه المسرحيات المهاجرة مكتوبة بما يسمى (لغة المسرح), وأذكر أنه عندما قدمنا مسرحية (القرى تصعد إلى القمر) في بغداد عام 1979، خاف المسرحيون العراقيون علينا لأن المسرحية مكتوبة بالفصحى, وقالوا لي: (إن المسرحيات التي نقدّمها بالفصحى لا يُقبِل عليها الجمهور), فلما نجحت مسرحيتنا نجاحاً كبيراً طوال ستة عروض, سألتني الصحافة عن سر ذلك فقلت – وقد نُشِر ما قلت بالخط العريض – «ليست المشكلة هي الفصحى أم العامية, بل هي لغة مسرح أم لا», وقد بينت خصائص لغة المسرح في كتابي (أصول الإلقاء والإلقاء المسرحي).
– دُعيت كثيراً للمشاركة في لجان تحكيم المهرجانات السورية والعربية وفي لجان تحكيم مسابقات التأليف المسرحي وفي لجان تحكيم الأبحاث المسرحية. كيف ترى واقع الحركة المسرحية العربية (نصاً وعرضاً وبحثاً)؟
— تعاني الحركة المسرحية العربية اليوم من كثير من التعقيدات والاضطرابات, فالنصوص المسرحية العربية المكتوبة بالفصحى, مملوءة بالأخطاء اللغوية الكثيرة, وتفتقد في الوقت نفسه قوة البناء الدرامي. وعلى الرغم من أن الكتاب يحاولون تمثُّل التيارات الحديثة في الكتابة – وهذا أمر جيد – فإنهم لايمتلكون الثقافة المتينة في الاتجاهات التي يحاولون السير عليها والاستفادة منها. لكن أكثر النصوص العربية اليوم تُكتبُ باللهجات العامية المحلية لكل قطر عربي, حتى سورية التي كانت حصناً للفصحى وشمخت بنصوصها المكتوبة بالفصحى, نرى الكتاب فيها – وأكثرهم لا يتقن أصول الدراما – يكتبون بالعامية وتقدمها لهم المؤسسات المسرحية.
ونحن نعلم أن العامية لايمكنها أن تقدم بناءً محكماً للشخصيات والصراع وبقية أركان النص المسرحي, ومن هنا تبدو النصوص المسرحية العربية قاصرة عن النفاذ إلى أعماق الشخصيات، وضعيفة الحبكة الدرامية, وتتناول القضايا الاجتماعية الساخنة بسطحية, أما العروض المسرحية على امتداد الوطن العربي فمشغولة بما يسمى (المشهد البصري), فصارت السينوغرافيا أهم من الممثل ومن تقديم حكاية متماسكة مثيرة تتغلغل في بنية المجتمعات العربية, فكأن المخرجين يهمهم إبراز عضلاتهم وقوتهم الإخراجية دون الاهتمام بالمتفرج العادي الذي هو قوام الجمهور المسرحي, ولهذا انفضَّ الجمهور عن المسرح في كل الأقطار العربية, وصارت العروض المسرحية تُبنى للمشاركة في المهرجانات لالتقديمها أمام الجمهور الواسع.
أما الأبحاث المسرحية فالقليل منها يمتاز بالفكر العلمي منهجاً وأفكاراً, يضاف إلى هذا النقص الفادح في منهجية البحث كثرة الأخطاء اللغوية وتهاوي الأساليب الكتابية.
– كيف ترى السبيل إلى نهضة المسرح العربي من جديد؟
— هناك طريقة واحدة تجر وراءها عربة المسرح العربي وهي العودة إلى تقديم النصوص القوية عربيةً كانت أم أجنبية, ومن أي اتجاهات أو مدارس أدبية.
وهذه العودة ستجعل مضمون الأعمال المسرحية عميقاً. فإذا كانت النصوص المقدمة تمس الحياة العربية فسوف يُقبِل الجمهور عليها بسبب هذا المساس إضافة إلى لذته بالحكايات الجميلة التي تقدمها هذه النصوص, وهذه العودة تجبر المخرجين على تقديم (العرض المسرحي المتكامل) مستفيداً مما أنجزه المسرح العربي في مجال التقنية وتطوير المشهد البصري. وعندها يكون المشهد البصري في خدمة الفكرة والحكاية, ولن يكون معلقاً في الفراغ كما هو الحال اليوم, وهذه العودة تُعيد إلى المسرح أبرز عنصر فيه وهو الممثل. فبدل أن يكون الممثل جزءاً من السينوغرافيا وعنصراً ثانوياً كما هو الحال اليوم، يصبح البطل الحقيقي للعروض المسرحية.
سلوى الديب
التاريخ: الأربعاء 20-2-2019
رقم العدد : 16914
السابق