شاعرٌ بفلسفةٍ بقدر ما تفاقمت نقمتها، تفاقمت سخريتها، ومن كلِّ ما جعلهُ يقرِّر وبعد أن رأى بأن «لا شيء في أوانه»، الـ «صعود» بقصيدته لإسقاط من ضبطتهُ غارقاً بجهلهِ وحقدهِ وبهيميةِ أفعاله..
إنه «محمد عيسى» الشاعر الذي تماهت الكلمات الساخرة والمتمرِّدة واللاذعة فيه ولديه، وإلى أن عنونَ قصائده بكلِّ ما فرَّغها إلا من اللعنة على كلِّ من كان سبباً في عجزِ معانيه. العجزُ الذي جعل حرفها يشهد: «لا شيءَ لأكتبه على الجدار/ أو لأحفرهُ/ برأسِ السكِّين على المقعد».
نعم، لا شيء يكتبهُ.. فماذا يفعل؟. ولاسيما بعد أن اضطرَّته بشاعة العالم الذي يحيط به، لتحويل كلماته الشعرية إلى صرخاتٍ تهكُّمية، تعلنُ اشمئزازها من الحقد والبُغض والقتل والدمار، وتسأل:
«بعد أن تنتهي الحرب/ كيفَ سنُقنعُ من وُلِدَ في ظلِّها/ أن صوتَ الرعدِ/ ليس تفجيراً إرهابياً؟».
حتماً هو صوته المسكون بالغضب الإنساني، وعلى كلِّ من فخَّخ المصطلحات بـ «الحرية» التي انفجرت وتحوَّلت إلى «كفنٍ عربي».. على كلِّ من استفزَّ الشِّعر بالموتِ والقهر.. على كلِّ من أفقده «تعويذة» الهوى وأمانه، وصبا اللحظات والكلمات التي هرمتْ في وصفها «لاشيء في أوانه»..
«لاشيْ في أوانه/ كلُّ ما مضى مضى/ آهٍ لو كان غيرَ ما كان/ الأهلُ والأصدقاءُ والعملُ والمكانُ/ والقناعات/ والوقتُ/ والحبُّ/ والوطن/ كبرنا زيادةً عن حاجتنا/ استعجلنا/ تباطأنا/ نَدِمنا/…
لاشكَّ أنها قصائدٌ بل لوحات، ضُمِّخت بالوجع والموتِ فتساقطتْ عنها الحياة.. لوحات، تماهت في ألمِ الألم، ولا شيء فيها إلا ويهاجر بعيداً عن الجدوى وإلى حيث العدم.
تهاجرُ من الشعر إليه، فتؤلمه بما فيها من غفوة الـ «حلم» وصحوة الألم على نزيفٍ أغرقَ فيه.. غفوة الحلم على حبيبة، عادت العصافير المهاجرة، لكنها لم تعد وبقيت محاصرة، وبالرحيل الذي جعل الشاعر يشتكي ويحاكي ذاته وآهاته:
«آهٍ يا خفقَ الهوى/ تمضي عمركَ طرقاً على خشبِ الصَّدرِ/ لاأحد يفتحُ عليك/ هُزَّ دَمَك/ ارفعهُ كنافورةٍ في الرأس/ لا يسنُدُ جرارُ الخيبة/ سوى بحص الانتظار».
لا يتوقف الشاعر عن محاكاة ذاته، ولاعن استنطاقِ فلسفتها العنيدة.. تقابله بالصمتِ فيحرِّضها بأن «سأكتب قصيدة».. لكن، كيف يبدأ وما الذي سيكتبه وهو يشعر بأن كلّ ما يحيط به يسعى لأن يهزمه؟!.. ينزل إلى الشارع بعيداً عن الضيقِ وسعياً إلى مدى يخلِّصهُ من الرتابة. يعودُ إلى غرفته بعد أن وجدَ بأن لاشيء يستحقُّ أن يتناوله.. يُفكِّر ويفكر إلى أن يُقرِّر تأجيل الكتابة.
هكذا يمضي الشاعر في قصائدٍ، لا يعرف ماذا يُحمّل أبياتها بعد أن أثقلتها الحربُ بأعباءٍ خلَّصتها من كلِّ جميل – أصيل.. هكذا يمضي، فلا جدوى من كتابته عن الحبِّ أو الغربة أو التاريخ أو حتى الحاضر والماضي والمستقبل في وطنٍ ذبحه الأوغاد، إلى أن دعا العباد «على بركةِ الرحيل»:
«غادِروا خبطَ عشواءَ/حاولوا أن تندسَّوا/ في رحابةِ الضَّباب/ لا تنسوا أن تُبعثِروا خُطاكم/ كي لا يتعقبُكم مشتاق/.
كل هذا وسواه من قصائد متعبة، مرَّرهما «عيسى» محملاً إياهما في النهاية «نصوص مهرَّبة».. نصوصٌ، هي حكمته بفكرته.. فكرته الآنية عن حياةٍ دموية: «آهٍ أيَّتها الدماء/ يا حفَّارةَ الشرايينِ/ إلى متى الدورانُ في مكانٍ مغلق؟».
ربما هو «اختبار» بـ»تمريرات شعرية» لـ»رغبات دفينة» أو «فيزياء رياضية» تبحث عما إذا كان الـ»انتقام» قد تحول إلى فرضٍ دنيوي.. ربما هي أيضاً، «كيانات» أو «رايات» أو حتى «نفقات عن روح الشعر» الذي لم يجد سبيلاً لخلاصنا من موتنا إلا بدعوتنا: «مُتْ أيُّها السوري».
لاشكَّ أنها نقمته، وعلى كلِّ من كان سبباً في تفاقمِ تهكّمه وسخريته. على قتله كلّ شيءٍ في وطنه.. على كلِّ من جعل «نصف الإنسان يقتل نصفه الآخر، دفاعاً عنه»..
باختصار.. هي كلماتٌ أظهر الشاعر أسودها، وغيّب الفهرس الذي أبقى مكانه خاوياً بانتظارِ أن تتخلّص القصيدة إلا من أبيضها.. ربما هو أبيضُ الكفن، وفي ظلِّ موتٍ شيَّع الحياة شعراً يرتِّلُ لغة هذا الزمن:
«في المشفى/ عندما أنزلوه عن السريرِ/ كانت الأرضُ قد انخفضتْ/ مقدار ساقين/».
هفاف ميهوب
التاريخ: الخميس 7-3-2019
الرقم: 16926