لم يكن الفن بألوانه المختلفة في يوم من الأيام خارج صناعة الإنسان و بمعنى آخر: وعيه وذائقته الجمالية التي تسمو به وتميزه عن غيره, هذه حقيقة لايماري فيها اثنان, في تاريخ الفنون والآداب كلها لن نجد غير ذلك سابقا, ولكن هل بقي الأمر على حاله؟
سؤال يطرح نفسه بقوة, والجواب بكل تأكيد: لا, لم يعد الحال كما كان, غدا الفن سلاحا ذا حدين, يبني او يهدم, يرتقي أو يهبط, في الشعر والرواية والموسيقا, وغير ذلك, هنا تبدو اللعبة السياسية التي توظفه من اجل الوصول الى غايات اخرى, هي من وجهة نظرها صحيحة وتقودها الى صناعة وعي يستقبل ما تريده, بل يهيىء له, في عصرنا هذا, ايامنا هذه غدا الأمر شائنا, مريعا، فبعد موجات الالتزام, والواقعية الجديدة وغيرها, من المذاهب التي أدت دورا مهما وتعرضت لما جعلها تبدو وكأنها خارج الكون, أتت موجة التسخيف والتسطيح, قادتها أجهزة مخابرات غربية, جعلت الفنون في هذه المنطقة من العالم بلا طعم أو لون, حداثة زائفة آنية, تخدم فيما تخدم تهرؤ الانسان, تسخيفه، تسطيحه, ليبدو كائنا هلاميا يمكن تدويره كما يحلو لمصانع تدجين الانسان وما أكثرها.
ما يطفو على السطح اليوم, ويكاد يأخذ البلاد والعباد إلى الهاوية, هو مظاهر الدراما التي حولت كل شيء إلى سلعة تنتج حسب مواصفات من يدفع أكثر, من باب الحارة إلى ما في القائمة من مسلسلات غدت ظاهرة تريد أن تكتب تاريخا آخر مغايرا, يبرىء جهل وتيه الأعراب, وكان من يصنعها يقول لهم, لم تشعرون بالخجل من تاريخكم الرملي الزائف, ونحن مثلكم لا تاريخ لنا, لم أنتم خجلون من غدركم, ونحن مثلكم ايضا نغدر, لم انتم خجلون من ومن, كلنا في الهم شرق…
ثمة مشهد في الدراما السورية, وغيره كثير يختصر مجد القول, مجد الفعل: عمر قصاص حين يصرخ: ألف حبل مشنقة, ولايقولون خائن يا خديجة… أليست صرخة ملء الكون والتاريخ .. من منا يمتلىء عنفوانا حين تستعاد هذه اللقطة, حين يغني دريد لحام للوطن, وحين وحين…
اليوم, غدت الدراما صناعة زائفة, والغريب في الأمر أننا نغدق مالا عليها لتصنع ما يريده من يمول الإرهاب علينا, من يقتلنا, نقدم له ما يريد تاريخنا تسلية على طاولة مشاهدته, يغدق أمواله على الإرهاب ونحن نغدق مالنا له, معقول مايجري, ولماذا هذا الانبهار بصناعة وعي زائف..؟
لم ولن نكون في يوم من الأيام ضد صناعة الدراما, لكني شخصيا اقول: معظم صناعها, ليسوا اهلا لما يبذخ عليهم, لو بذل ربعه على الربع الخالي لأورق, إن لم نقل على أمر آخر..
مال الخليج وبلاط الدولار, حول الفن كله إلى تسلية ولهو, متعة زائفة, ذكرنا بأيام اللهو والعبث في العصر الاموي والعباسي وكثيرون تحولوا إلى مهرجين كما بهلول, وإن كانت ثمة رؤية أخرى تبرىء بهلول مما نسب إليه, أليس عجيبا غريبا أن يمسخ الفن والمبدع, يذهب المهندس والطبيب – بعضهم – الى الخليج بعقل نير ورؤى فكرية منفتحة, ويعود عقلا مسطوما, مغلقا, ممتلئا عفنا, وقس على ذلك كتاب وشعراء وفنانين وإعلاميين, أحقا لهذه الدرجة يفعل المال فعله؟
هذه حال لاتسر, ولايمكن لأحد ان يقول إنها غير موجودة, ولكن من حق الجميع طرح السؤال: ما الحل, ما العمل, لماذا وصلنا إلى هنا ؟ قد يرد احدهم: الجيوش تزحف على بطونها, هذا صحيح, ولكنها أيضا تبذل الدم, ولا تقف عند لقيمات ومال إذا كانت العقيدة التي تدافع عنها حقة, بكل الأحوال, التقصير شئنا أم ابينا, اعترفنا ام لا: التقصير موجود وتركنا ساحاتنا الفكرية كلها مشرعة لمن يسد فراغها, لمن يعمل على سرقتها وأخذها إلى اماكن اخرى كثيرة, هي مسؤولية كبرى, ما من أحد خارج إطار التقصير: من الاسرة إلى المدرسة والجامعات التي تحولت إلى ورقة كرتونية كجواز مرور إلى الإعلام, إلى المؤسسات الثقافية, وغيرها, ببساطة: تجول في مدننا وابحث في مكتباتها فلن تجد مطبوعة دورية إلا ما ندر, فراغ يسده من يعرف كيف يتسلل, من يعرف كيف شغلنا بالدراما وصناعة الوعي الزائف, من يعرف معنى قول نزار قباني: أفي عصر زيت الكاز…
d.hasan09@gmail.com
ديب علي حسن
التاريخ: الأحد 26-5-2019
الرقم: 16986