الملحق الثقافي-نبوغ أسعد:
منذ بداية الرواية وحتى نهايتها يأخذنا معه الكاتب محمد شعبان في رحلة نفسية صعبة ومعقدة، من خلال تلك الحالة المملة التي نشأت بين بطل القصة وزوجته، دون أن يعرف أحد الطرفين لماذا نشأت هذه الحالة وكيف، بالرغم من حالات التذكر التي توحي بأن بطل القصة مازن الشومري قد تزوج زوجته بنت الأكابر بعد قصة حب جميلة نشأت بينهما في المرحلة الدراسية الجامعية. ومع استمرار الحياة التي تنشب مخالبها في قلوب المحبين، يتزعزع كيان الحب، لتصبح الحياة مملة ورتيبة، ليس فيها سوى الروتين اليومي الذي فرض عليهم من واجباتهم تجاه تربية الأولاد، والسعي لإنشائهم نشأة حسنة، إضافة إلى ما يتطلبه البيت من مستلزمات يومية. كل هذا على حساب مشاعر الإنسان، التي تتناثر في دروب الحياة وثقل همومها. ورغم برود تلك العواطف والأحاسيس، يسرد لنا الكاتب الرواية بصفة الأنا، ما يجعلنا نعتقد بأن بطل القصة هو نفسه الكاتب، لما يمتلك من براعة في التصوير والسرد المبتكر، والعمل على أدق التفاصيل تجاه المشاعر الإنسانية والعاطفية والوجدانية المليئة بالحزن والألم العميق الذي يتعرض له البطل، ويسيطر على كيانه، ويجعله يشعر بأنه أصبح بعد التقاعد رجلاً ثقيل الظل على أفراد أسرته وفي مجتمعه.
وكذلك فإن الزوجة تبدأ معه بتحد شديد القسوة محاولة إثبات ذاتها وقوتها من خلال إهمالها المتعمد له وعدم مبالاتها لوجوده، فيشعر البطل بخيبات أمل متكررة وانكسارات نفسية شديدة الأثر، لكن كبرياءه لا يسمح له أن يرى نظرة الشماتة والانتصار في عيني زوجته، وهي التي تمتلك المال الوفير والبيت الذي هو ملكها، يرى فيها الإنسانة المتسلطة القاسية التي تجثم على صدره مثل الجبال الراسخات، وتقف عقبة في طريق حياته، فيعاني من هذا الصراع الذاتي بينه وبين نفسه، وتأبى هذه النفس الجموحة أن تفصح عما يجول فيها لأحد. فيذهب لإشغال نفسه ببعض الأمور الروتينية اليومية كالذهاب إلى حديقة السبكي وسوق الخضار والنزهات الطويلة مع صديق عمره أبي جابر، الذي يغيبه الموت في غفلة عنه، فيحزن لموته كثيراً ويؤنبه ضميره على ذلك.
كل هذه الأشياء جعلته يتعلق بالخادمة الشابة سميرة، فيحبها سراً ويحاول الوصول إلى قلبها بأية وسيلة؛ يتابعها في سوق الخضار والأزقة، لكن ما سرعان ما تختفي أمام ناظريه، لكنه يبقى على إصراره في الوصول إليها دون أن تدري هي بحقيقة مشاعره، ويبقى مصمماً على الفوز بقلبها وجسدها الفتي، مراعياً وبحرص شديد على ألا يكسر القوانين الأخلاقية والاجتماعية، وخوفاً من ألسنة الناس التي لا ترحم. فلا يستطيع البوح بسره حتى لرفيق عمره أبي جابر، وكي لا يصغر بعيني جيرانه ومجتمعه وأولاده وهو المعروف بالرجل المتزن صاحب الأخلاق النبيلة. هذا ما شغل عليه تفكيره طيلة هذه الفترة التي عاشها بعد أن تعلق قلبه بسميرة التي لم تعط بالاً لمشاعره.
السرد
يقوم الكاتب بسرد الرواية بأسلوب فيه الكثير من القيم الجمالية والوصفية للمكان والزمان وكل سكنات الطبيعة والبيئة بمزاج خاص ومتميز، حيث أنه عاطفي ومرهف جمالياً وبارع بتحليل الحالة النفسية والاجتماعية. وهذه وسيلة للإيضاح معتبراً أن هذا الإيضاح أساسي في مهمته للوصول إلى قلب القارئ، وظناً منه بأن تلك الروابط التي تربطه بعصره وبيئته ومحيطه إذا انقطعت ذبل معنى الحياة وجوهرها في الإنسان، وأصبحت كالموت الذي بدأ ينصب شباكه حول البطل مازن، وخاصة بعد التحرش بسميرة في سوق الخضار، وتهديد الشاب الذي رأى الحادثة وهدده بالفضيحة، فيذكره بكبر السن.
ينزوي بعدها الشومري في بيت زوجته تحاشياً لنظرات المجتمع، وبعد أن تقع الفريسة في براثنه، يبقى البطل على تلك الحالة النفسية السيئة وهو يتنقل بين غرفته الصغيرة التي استأجرها في بناء آخر أملاً أن يسكنها مع محبوبته سميرة، والتي صارت تشبه إلى حد ما فاديا، خاصة وأن سميرة لم تدافع عنه أمام الشاب الذي كسر كبرياءه وفضح أمره. فشعر أن سميرة تميل إليه وتحبه، ويرى نفسه يسير نحو مستنقع الموت البطيء الذي يدب أوصاله في شرايينه، ويخطر بباله أن يذهب إلى صديقه أبي جابر ويتحدث له بكل جرأة عما يعتصر قلبه من مشاعر الألم والحزن، فيتذكر بأنه مات بمرض عضال من دون أن يكون إلى جانبه، ويؤنب نفسه على تقصيره معه.
تتردى حالته النفسية أكثر وأكثر. يصعد الشومري إلى غرفته الصغيرة المطلة على حديقة السبكي التي تقع ما بين شارع الروضة وأبي رمانة. وبينما هو يصعد الدرج معتمداً على عكازه، وقبل وصوله بقليل، تنزلق العكاز التي اشتراها لتكون رفيقه الجديد في رحلة الكآبة، فينقلب على وجهه ويصطدم رأسه بطرف الحائط. يشعر بألم حاد في قدمه التي التوت بقوة، ورأسه الذي راح ينزف قليلاً. لكنه يحاول جهده الوصول إلى الغرفة ويتمدد على السرير، حيث يبدأ شريط الذكريات المر يتراءى أمام عينه الذابلتين فيظهر له أولاده الخمسة كل على حدة، ويذكر كل واحد باسمه وصفاته المحببة إلى قلبه. يناجيهم ويطلب المساعدة، ولكن لا أحد منهم يلبيه.
تتوافد عليه صور أعز الناس على قلبه ممن رحلوا وتركوه وحيداً في هذه الحياة. إنه الصراع الأخير بين الحياة والموت. يرى والده بكل جبروته مع أمه الطيبة، يستجديهما أن يطعماه تلك التفاحة المتواجدة في صحن الفواكه، فلا أحد يجيب. يناجي رفيق عمره أبي جابر فيأبى الآخر أن يقدم له التفاحة. الكل سمع نداءه لكن لماذا لا يقتربون منه ويساعدونه؟ ولا ينسى وهو في سكرات الموت أن يوصي خيالات أولاده الأحبة بأمهم والعناية بها رغم قسوتها وجبروتها عليه ومعاملته السيئة له.
يدوم الصراع لساعات قليلة بين الحياة والموت. يحاول الشومري أن يستعطف ملك الموت ويؤجل قطف روحه، لكن دون فائدة.
وهنا تبرز براعة الكاتب شديدة الحذر بالحوار الذي يدور بين الشومري وملك الموت بتفاصيل دقيقة وعميقة، وكيف يتأرجح في حبائل الموت. وهذا يدل على براعة الكاتب في وصف تلك الحالة النفسية التي وصلت إلى نهايتها ضمن إطار الأدب التأثري الذي سلكه وربطه بأحداث درامية فيها الكثير من التشويق وفلسفة البيئة الخاصة، إضافة إلى الموهبة والاتجاه والأسلوب والمنهج الذي سلكه في تحليل الحالات النفسية المتواجدة في الرواية.
التاريخ: الثلاثاء 28\5\2019
رقم العدد:16988