الملحق الثقافي-إعداد: رشا سلوم:
ثمة شعراء يمضون كالشهب، يعبرون الحياة سريعاً، إنما أتوا ليلقوا علينا من السماء نبوءات القادم، ليقرعوا جرس الإنذار ويمضون إلى حيث كانوا، يتركون وراءهم كل شيء جميل. عشرات الشعراء كانت الرؤى طريق خلودهم، على الرغم من العمر القصير كعمر الورد، مضى الشاعر أمل دنقل، وترك وراءه معلقته الخالدة «لا تصالح»، وهي من عيون الشعر العربي، بل ملحمة لا يمكن أن تمر عليها مرور الكرام، حتى في حياته تفاصيل رحلة الكفاح ترويها زوجته عبلة الرويني في كتابها «الجنوبي»، واليوم في ذكرى رحيله نقدم محطات مستعادة في حياته:
محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل، وُلد عام 1940 في أسرة صعيدية. كان والده عالماً من علماء الأزهر، ما أثّر في شخصية أمل دنقل وقصائده بشكل واضح.
امتلك دنقل مكتبةً ضخمةً ضمت الكثير من كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر من التراث العربي، وكان ذلك ما كوّن اللبنة الأولى لهذا الأديب.
أطلق عليه والده اسم «أمل» بسبب النجاح الذي حققه بعد ولادته في نفس السنة التي حصل فيها على إجازة العالمية. عُرف أمل بالنباهة والذكاء والجد تجاه دراسته، وقد التحق بمدرسة ابتدائية حكومية أنهى فيها دراسته سنة 1952.
ورث عن والديه الاعتداد بالنفس والشخصيةَ القويةَ والمنظمة، وعُرف عنه التزامه بتماسك أسرته واحترامه لقيمها ومبادئها.
إبداعه
انتقل دنقل إلى القاهرة ليدرس في كلية الآداب بعد أن أنهى دراسة الثانوية في قريته، لكنّه انقطع عنها ليعمل في عدة أعمال لاحقاً، فقد عمل موظفاً في محكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية، ومن بعدها في منظمة التضامن الأفرو-أسيوي. لكنّ شغفه في كتابة الشعر جذب اهتمامه وجعله يترك أية وظيفة يبدأ بها.
كانت القاهرة عالماً مختلفاً بالنسبة إليه، ولم يتأقلم فيها بدايةً بشكل جيد، وهذا حال معظم أهل الصعيد الذين انتقلوا للسكن فيها، تأثّر بذلك وظهر ذلك بوضوح في أشعاره الأولى. استوحى دنقل قصائده من رموز التراث العربي وعلى غرار الشعراء الآخرين في تلك الفترة الذين تأثروا بالميثولوجيا الغربية واليونانية خاصةً، وعاصر فترة أحلام العروبة والثورة المصرية، وساهم ذلك في شحذ نفسيته.
عبّر عن صدمته بانكسار مصر عام 1967 في قصيدة رائعة بعنوان «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» ومجموعة شعرية بعنوان «تعليق على ما حدث». أصدر ديوانه الثالث «مقتل القمر» عام 1974.
أطلق رائعته قصيدة «لا تصالح» بعد معاهدة «السلام» وضياع النصر، وعبر فيها عن كل ما جال في خاطر المصريين. كان تأثير المعاهدة وأحداث شهر كانون الثاني/يناير عام 1977 واضحاً في مجموعته «العهد الآتي».
كان على صدام مستمر مع السلطات المصرية بسبب موقفه من عملية «السلام»، وهتف آلاف المتظاهرين بأشعاره أثناء احتجاجهم في الطرقات.
مثّل أمل دنقل مصر وبيئته الصعيدية وناسها، وتأثرت أشعاره بقوميته وعروبته القوية، وهذا ما عبّر عنه بشكل واضح في قصيدته «الجنوبي» في آخر مجموعة شعرية له بعنوان «أوراق الغرفة 8».
كان ديوانه الأول الذي صدر عام 1969 بعنوان «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» هو الذي شهره عربياً، وجسّد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967.
عام 1976 التقى الصحفية عبلة الرويني التي عملت في جريدة الأخبار، ونشأت بينهما علاقةٌ عاطفيةٌ استمرت إلى أن تزوجا عام 1978.
لم يكن لديهما مسكنٌ ثابت ولا مالٌ كاف، وانتقلا كثيراً بين الفنادق والغرف المفروشة.
وفاته
أصيب أمل دنقل بالسرطان، وعانى منه لمدة تقارب الثلاث سنوات من دون أن يكفّ عن كتابة الشعر، وظهرت معاناته في مجموعته «أوراق الغرفة 8» وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام والذي قضى فيه ما يقارب الأربع سنين.
توفي يوم 21 أيار/مايو 1983 وبذلك انتهت معاناته مع مرضه.
محطات من حياته
اعتزم بدايةً دخول فرع علمي كالهندسة أو الكيمياء، لكنّ تغيرٌ مفاجئ جعله يكمل دراسته في فرع أدبي.
نشأ دنقل في بيت أدبي، فلم يكن والده مدرساً للغة العربية وحسب، ولكنّه كان أديباً وشاعراً فقيهاً ومثقفاً، وقد تأمل أمل والده وهو يقرأ ويكتب الشعر.
ألقى بدايةً العديد من أشعاره في احتفالات المدرسة بالأعياد الوطنية والاجتماعية والدينية.
نُشرت لأمل دنقل الطالب في الثانوية أبياتٌ شعريةٌ في مجلة مدرسة قنا الثانوية عام 1956.
ترك والده المتوفى له ولعائلته بيتاً صغيراً يقطنون في طابق منه ويؤجرون الطابق الثاني، وهذا ما مكّنهم من العيش دون الحاجة لمساعدة الآخرين.
من شعره
من أشهر أشعار أمل دنقل قصيدة «لا تصالح» التي أصبحت أغنية يتغنى بها الناس، وتعبر عن آلامهم وآمالهم وتحثهم على المقاومة مهما كلف الثمن. يقول فيها:
لا تصالحُ..
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:
النجوم.. لميقاتها
والطيور.. لأصواتها
والرمال.. لذراتها
والقتيل لطفلته الناظرة
كل شيء تحطم في لحظة عابرة:
الصبا – بهجةُ الأهل – صوتُ الحصان – التعرفُ بالضيف – همهمةُ القلب حين يرى برعماً في الحديقة يذوي – الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ – مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ
وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة
كلُّ شيء تحطَّم في نزوة فاجرة
والذي اغتالني: ليس رباً..
ليقتلني بمشيئته
ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته
ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة
لا تصالحْ
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ..
(في شرف القلب)
لا تُنتقَصْ
والذي اغتالني مَحضُ لصْ
سرق الأرض من بين عينيَّ
والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة!
لا تصالح
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد وامتطاء العبيد
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ
لا تصالح
فليس سوى أن تريد
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك.. المسوخ!
لا تصالحْ
لا تصالحْ
التاريخ: الثلاثاء 28\5\2019
رقم العدد:16988