تحفل ذاكرة السوريين بالعديد من الأيام المجيدة التي تختزل بعناوينها وتفاصيلها وأحداثها الكثير من قيم الكرامة والبطولة والفداء والاستشهاد من أجل الوطن ومن أجل حفظ ترابه وسيادته وصون كرامته وحريته واستقلاله، ولا يختلف اثنان في أن يوم التاسع والعشرين من أيار عام 1945 كان واحداً من تلك الأيام العظيمة التي صنعها السوريون في مسيرتهم لصنع الاستقلال، بالنظر إلى عدد الشهداء الذين ارتقوا من أبناء مدينة دمشق ومن حامية البرلمان التي رفضت أداء التحية لعلم الاحتلال الفرنسي أثناء إنزاله من على ساريته في دار الأركان الفرنسية، وكذلك للدروس العظيمة التي اختزلها هذا الموقف البطولي الشجاع من قبل هؤلاء الميامين والتي وصلت أصداؤها سريعاً إلى أسماع المستعمر الفرنسي الغاصب فكانت سبباً مباشراً في اندحاره في العام التالي عن كامل التراب السوري وخروجه بعد ستة وعشرين عاماً من كفاح السوريين ونضالهم من أجل استقلال بلدهم وتخليصه من نير الاستعمار وظلامه.
لا بد لمن يستذكر ذلك اليوم الأغر من تاريخ سورية الحديث وهو(يوم البرلمان) ووقفة حاميته الشجاعة خلال رفضهم أوامر الحاكم الفرنسي ومواجهتهم رصاص جنوده القتلة بصدورهم العارية، من أن يتوقف عند المعاني العظيمة لذلك اليوم وفي مقدمتها، أن السوريين أباة أعزاء لا يقبلون الذل والهوان ولا يخضعون لغازٍ أو محتل مهما كان ثمن التضحيات غالياً، إذ تشير الإحصائيات إلى استشهاد معظم حامية البرلمان وعددهم 28 دركياً، في حين كتبت النجاة لاثنين من رفاقهم وقد عاش كل منهما ماتبقى من حياته تحت اسم (الشهيد الحي) يروي قصص بطولاتهم وتضحياتهم، في الوقت الذي شنّ فيه المستعمر الفرنسي على مدينة دمشق عدواناً بربرياً مبيتاً كشف حجم فشله وحقده على السوريين حيث استشهد نحو 600 شهيد فيما تجاوز عدد الجرحى عتبة الـ1700 إضافة إلى دمار كبير بالممتلكات العامة والخاصة، بينما كشف ذلك العدوان المتغطرس عن الوجه الحقيقي لمدعيي الحرية (الفرنسيين) وأن الاستعمار هو عدو الشعوب الحرة مهما كانت مبرراته وذرائعه لمصادرة قرارها وحريتها واحتلال أرضها.
وهاهو التاريخ يكرر نفسه مجدداً بصور متنوعة، حيث بقي ذلك اليوم الأغر نبراساً للسوريين جيلاً بعد آخر يستضيئون بنوره لحفظ كرامة وطنهم وصون ترابه وحريته واستقلاله، فقد قدم السوريون خلال ثمانية سنوات ونيف من الحرب الإرهابية العالمية المفروضة على بلادهم مئات آلاف الشهداء وأضعافهم من الجرحى ولم يتراجعوا قيد أنملة عن قرارهم بتحرير كل شبر وطأها الإرهابيون المجرمون وداعموهم من قوى العدوان والغطرسة والاستعمار القديم والجديد بما فيهم فرنسا الدولة الاستعمارية الباحثة عن مصالح وأطماع جديدة في سورية الوطن الذي هزم جبروتها وحطم طغيانها وأذل كبرياءها قبل ثلاثة وسبعين عاماً.
منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا وأبناء سورية الميامين يقاومون الغزاة والمحتلين ويقولون كلمتهم في النهاية، فكم من غازٍ ومحتل حاول أن يبقى على هذه الأرض ويقيم مشروعه الاستعماري فيها ليفاجأ بمقاومة السوريين وإصرارهم على الصمود والبقاء والتجذر في أرضهم ورفض أي شكل من أشكال الوصاية والاحتلال والتدخل الأجنبي، وقد أثبتت حرب السنوات الماضية أن الأحفاد حفظوا أمانة الأجداد وصانوها بدمائهم وأرواحهم، وسيسلمونها لمن يأتي بعدهم من أجيال عزيزة مصانة كما وصلت إليهم.
من المخجل أن المستعمرين وخاصة الفرنسيين منهم لم تتغير طباعهم ونواياهم الشريرة رغم كل التطورات والأحداث التي مرت على يوم البرلمان، فها هم مجدداً يحاولون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بعناوين جديدة لا تقل خداعاً وتضليلاً عن عناوينهم السابقة، فمرة نراهم يدافعون عن الإرهاب باسم الحرية ومرة يقتلون الشعب السوري ويدمرون ممتلكاته ومؤسساته بذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب الذي دعموه وقاموا برعايته لغاية في أنفسهم الشريرة، وتارة يتبنون روايات الإرهابيين بخصوص كل ما يحدث في سورية من أجل استخدام هذه الروايات المفبركة والكاذبة مبرراً وذريعة لارتكاب المزيد من الأخطاء والموبقات، في مؤشر على أنهم لم يتعلموا من دروس الماضي، وأنهم بحاجة لدروس جديدة توقفهم عند حدودهم وتعيدهم إلى حجمهم الطبيعي وتسقط عنهم قناع الإنسانية الذي يستر وجوههم القبيحة ويسقط ذرائعهم الكاذبة التي يتبجحون بها على منابر الأمم المتحدة وباقي المؤسسات الدولية من أجل المزيد من العربدة والغطرسة والتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الحرة المستقلة.
منذ ثماني سنوات ونيف يكتب أحفاد حامية البرلمان وأحفاد أبطال ميسلون وباقي الملاحم العظيمة التي خاضها شعبنا على طريق الحرية والاستقلال والجلاء والتحرير أروع صفحات المجد والبطولة ويقدمون أغلى التضحيات ليؤكدوا للعالم أجمع أن الأمانة محفوظة وأن الاستقلال مصان وأن الحرية تؤخذ ولا تعطى وأن المستعمرون وأدواتهم إلى زوال وإلى هزيمة.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الأربعاء 29-5-2019
الرقم: 16989