انحراف خطير بدأ يتسلل منذ سنوات إلى عالم الدراما التلفزيونية، تسلل بداية ببطء وحذر وما إن وجد لنفسه مكاناً (وإن متواضعاً) حتى بدأ يكرس حضوره بقوة ناسفاً الكثير من القيم والأعراف والبديهيات، فقديماً كان المخرجون والكتاب والمبدعون يؤكدون على ثوابت أعمالهم التي تحمل حالة من التوعية إلى جانب جرعة معرفية وفكرية تتعاطى مع الواقع على أكثر من مستوى وتحتمل أكثر من قراءة، ذلك كله كان يُغّلف بإطار فيه من المتعة والجذب ما يحقق حضوراً لائقاً عند المشاهدين، تلك الأعمال كانت تسمي الأمور بمسمياتها وتحمل جرأتها التي تغوص إلى عمق الواقع وتنهل منه، ولكن ما حدث أن انحرافاً جرى في آلية التعاطي وربما في الهدف بقصد أو عن غير قصد، والحجة دائماً تقديم المختلفة.
بعد أن كان هناك حالة من تكريس قيم وأخلاقيات وإيصال رسائل تتلاءم مع الواقع وما يمر به المجتمع من أحدث أو ظروف، بتنا اليوم نروج للمجرمين وقاطعي الطرق ومروجي المخدرات ومن يخون زوجته أو تخون وزجها.. الكثير من القضايا التي كانت تٌقدم من خلال شخصيات تظهر في الأعمال على أنها سلبية ومكروهة وإن بدت بدور البطولة إلا أنها تبقى منبوذة، أما اليوم فقد انقلبت الطاولة وتحوّلت المفاهيم وباتت تلك الشخصيات هي الموضة التي تم التمهيد لها حتى باتت تلقى قبولاً عند الناس وتم ترسيخها بقوة عبر أعمال تُصدّر عبر البذخ الإنتاجي وتكامل الحالة الفنية فيها لتكون واجهة الدراما التلفزيونية. الأمر فرض مجموعة من التساؤلات المهمة:
لماذا علينا التعاطف مع المجرم والحرامي وقاطع الطريق في المسلسلات، لماذا هذا التوجه الذي ينسف القيم الاخلاقية عن بكرة أبيها ويضعها في مطب آخر تماماً، لماذا علينا التعاطف مع (دهب) التي حاولت قتل المرأة في (سلاسل دهب)، لماذا علينا التعاطف مع (جبل شيخ الجبل) في (الهيبة) وفي رقبته الكثير من الدماء.. والأنكى أنه علينا تصديق تبريرات الكاتب والمخرج في إنسانية كل من تلك الشخصيات وبأن كل منها فعل فعلته بهدف الدفاع عن المظلومين!.. تعميم هذه المفاهيم الأخلاقية إلى أين سيصل بنا!؟. ويبقى ما ذُكر غيض من فيض.
لا بد من الإشارة لمن يود الاصطياد في الماء العكر إلى أن أي دراما بحاجة لتكون مشوقة إلى عنصر الشر ليشتد الصراع، ولكن هناك فرقا شاسعا في آلية التعاطي والطرح، ومثال ذلك، مشهد اغتصاب يمكن أن يُقدمه مخرج بفجاجة، ويصوره مخرج آخر باستفزاز، وآخر يكون همه إثارة الغرائز، بينما نجد مخرجاً يمكن أن يقدمه برقي حاملاً الدلالات التي يريدها فيوصل فكرته بالأسلوب البصري الأرقى، وهنا يمكن استحضار شاهد على هذا الكلام وهو مشهد الاغتصاب في مسلسل (حائرات) إخراج سمير حسين وتأليف أسامة كوكش والذي تم تقديمه بطريقة راقية حملت دلالاتها وبعدها الإنساني دون استفزاز للمشاعر، وهو مثال من أمثلة كثيرة.
fouaadd@gmail.com
فؤاد مسعد
التاريخ: الأربعاء 5-6-2019
الرقم: 16994