لم يكن هذا الصباح مختلفاً عن سابقيه من الصباحات سوى أن حيرة اعترت جارنا محمود، حيث نزل إلى الشارع ولم يجد أحداً يمشي وكأن البيوت لا تزال نائمة، أو أن الجيران على سفر.. وحين التقى حارس جاره المسؤول قال له (كل عام وأنتم بخير عم محمود)
رد العم محمود التحية بهدوء ولم يسأل أي عيد؟ أو هل فعلاً هذا اليوم هو يوم عيد؟ لقد تقاعد محمود ولم يعد يتواصل مع دوائر الدولة ولا مع مؤسسات العمل.. غادره الأولاد والبنات.. وتساوت عنده الأوقات.. التواريخ متشابهة والبشر كلهم على عجلة من أمرهم.. كلهم في سباق مع الزمن ومع أنفسهم.. لن يهرب شيء منك يا محمود.. كله مكتوب ومقدر والعمر يجري.. فلماذا كل هذا الركض والجريان إلى النهايات؟
حين مرّ البقال باتجاه بقاليته قال بصوت جهوري (كل عام وأنت بخير سيد محمود)
نظر محمود حوله مندهشاً؟ لماذا يوزعون المعايدات؟
أي عيد هذا الذي يحتفون به ولم يتغير أي شيء حوله..؟ نظر إلى ثيابه.. همس.. هذه هي.. منذ سنوات سبع لم يشتر ثياباً جديدة.. ولم يذهب خارج حارته.. كما أنه لم يزر أصدقاءه.. حتى أنه ضيع عناوينهم.. بعضهم مات.. وبعضهم هاجر.. وآخرون هجروه.. تنهد بعمق وهو يتأمل حذاءه المقشور.. تأثر حيث انه يحلم بحذاء جلدي من أحذية أيام زمان التي كان يفصلها عند حذّاء يدوي ماهر.. كان يدفع غالياً وهو سعيد.. ولكنه الآن يلبس أحذية من الجلد الصناعي.. قال بصوت عال وهو يمسح عينيه (كل شيء بات صناعياً) حتى العيد.. العيد مجرد جملة لا أكثر تقال سريعاً وتطير في الهواء.. فلماذا يوزع الأمنيات بالعيد وهو لم يره ولم يدق بابه منذ سنوات الحرب الأولى.. لم يغير فرش صالونه.. ولم يوصِ على حلوى محترمة.. ومنذ سنوات لم يشتر ثياباً للعيد.. ولم يتذكره الأولاد بوردة.. كما أنه لم يذهب إلى مطعم ولا إلى منتجع سياحي.. وفي اللحظة التي راح يعدد مظاهر العيد بعد تقشف وصيام وصبر.. لاحت له أعياد زمان حيث كان يذهب إلى البحر.. كان البحر واسعاً كما أحلامه.. وكان موجه أزرق هادئاً مثل حياته.. كان رمل الشاطئ ليناً ناعماً يستطيع أن يغمره ويسحب من جلده كل التوتر والقلق وشحوب العمل في المدن الضيقة.. لكنه لم ير البحر منذ سبع سنوات.. منذ أن استيقظ ذات صباح ورأى الرؤوس تتدحرج في الشارع وخلفها صراخ أطفال ونسوة ورصاص يتفجر وتكبيرات تتطاير من أعالي الدم والسواطير والوجع.. يومها فارق محمود ذاته وأحلامه وفارق بحره.. صار يرى البحر في الصور وعبر الشاشات الفضية.. صار يشم البحر في أنامل القادمين من جهات الموج.. كم يحلم أن يعود الزمن إلى الوراء.. ربما يأتي العيد معه مرة أخرى.. لكن.. قال ذلك وهو يرفع يده بالتحية لجيرانه الذين خرجوا باتجاه المقابر حاملين الريحان إلى أعزائهم وأحبائهم الذين تعبوا من هذه الحياة فغادروا ليرتاحوا من جحيم الحرب وجحيم المنافقين والقتلة والمدعين.. قال البقال للعم محمود (أتريد بعض الحلويات؟)
ابتسم محمود وهمس لنفسه وهو يبتعد (حلويات؟ حلويات شو؟) بعد أن صرنا نتعامل بالدولار ونقيس على الدولار لم نعد نأكل حلويات.. ثم إن الحلوى ضارة وأنا لا أحتاجها؟ هزّ محمود يده وهو يتحدث إلى نفسه بينما توقف ابن الجيران وهو يراقب العم محمود الذي راح يرفع صوته مع حركة يديه (عيد شو.. عيد بلا ثياب جديدة وبلا حلوى وبلا أحبة وجيران؟؟)
كان محمود يمشي بهدوء ولكن فجأة صار حوله مجموعة من الجيران الذين ساروا إلى جانبه وقد راحوا يحركون أيديهم مثله ويهزون رؤوسهم بأسى وقد غامت عيونهم وهم يرددون (عيد شو؟).د
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 5-6-2019
الرقم: 16994