ملحق ثقافي..ترجمة: عدنان حسن:
العالم مقسم إلى أمم وتيارات وأحزاب وألوان وشرق – غرب، وشمال – جنوب. إنه عالم غير قادر على أن يكون متزناً أبداً. إنه عالم يهرع نحو حتفه، ولا تكون القضايا التي يهرع نحوها أصيلة وأساسية في وجوده، بل على العكس تماماً، إن محاولة التفريق بين شرقي وغربي وأسود وأبيض، تمزق الوجود الإنساني، وتجعله غير قادر على الاستمرار، هذا إضافة إلى الجشع في سلب الآخر كل ما يملك.
تصدرت مشكلة الزنوجة مرحلة من تاريخ العالم، وما زالت مستمرة إلى اليوم، لأن العالم الغربي، الذي أنتج هذا المفهوم بهدف التمييز وعبودية الآخر، قد أمعن في سلب الزنوج أبسط حقوقهم، وحولهم إلى عبيد لديه، وهو يدعي التقدم والحرية وحقوق الإنسان، وإلى آخر تلك القائمة البراقة من الشعارات.
يدخل بول. س. تايلور في عمق مشكلة الزنوجة، ويسمي كتابه «فلسفة علم الجمال الأسود». ويقول: «كانت الأسباب القديمة للتركيز على الأدب الأسود والفيلم الأسود والموسيقى السوداء، هي النتاجات الصنعية للأنظمة الأقدم للتشكل العرقي. فقبل النجاحات «المعدلة» لكفاحات الحرية السوداء في القرن العشرين، باتت الثقافة التعبيرية السوداء تهم السود، لأن عمل الثقافة سمح لهم بالإفلات، إلى درجة ما، من نير الإقصاء التفوقي الأبيض، أكثر مما استطاع الطامحون إلى النجاح في الأعمال التجارية أو السياسة، وبالإنجاز على مستوى يتناسب مع مواهبهم».
بالتأكيد لم يكن الأسود سوى صفقة وتجارة رابحة بالنسبة إلى الأبيض المتفوق، ولم يكن الأسود يوماً إنساناً، يمكن التعاطي معه على أنه مخلوق فيزيقي يتمتع بروح كالروح البيضاء. وبالتالي كان على الأسود أن يدافع عن عرقه، أي عن وجوده، ضد السرديات العنصرية التي طغت على الثقافة الغربية، وأنتجت على المدى ما يعرف بـ «رهاب الزنوجة».
يرى تايلور أن للزنوج بصمات على نبض بعض الدوافع الإنسانية في الجوهر، التي كان الناس المفرطو التحضر من الأعراق الأخرى قد نسوها. ويقول: «بدأ هذا الصراع الجدلي للمقاربة الكولونيالية والمقاربة المضادة للكولونيالية، يفقد صلته بالواقع، بعد أن أصبحت البلدان الأفريقية تحكم نفسها، وبعد أن باتت الجماعات السكانية الرعية السوداء في الدول الاستعمارية الاستيطانية تدافع وتنال شيئاً يشبه حقوق المواطنية الكاملة لها. بالتعبير ببساطة: عندما تصبح أوبرا أيقونة وسائل الإعلام العالمية، وتنال توني موريسون جائزة نوبل للأدب، ويصبح مانديلا رئيساً لجنوب أفريقيا، ويصبح باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، ويمكن لهالي بيري أن تنال الأوسكار.. عندما يحدث هذا كله، فإن المقاربات القديمة للثقافة التعبيرية السوداء تبدو أقل صلة بالواقع بكثير».
هل كل هذه الأيقونات السوداء، تعني أن العنصرية ولت؟ أو أن الذي ولى فعلاً هي العرقانية الكلاسيكية؟
عنون تايلور الفصل الأول «»التجميع لا الولادة»، وبدأه بقصة حول جلب العبيد بسفن إلى جنوب أمريكا. لقد تم خطفهم من بلادهم الأصلية وتكبيلهم وإنزالهم في مكان جديد، ليواجهوا أقداراً جديدة. ويضيف: «كان البعض يعاني صعوبة في الوقوف، ومعظمهم لا يستطيع فتح عينيه في ضوء الشمس». وهكذا يتم بيعهم للرأسمالي الذي كان ينتظر على رصيف الميناء.
يرى تايلور أن الزنوج الذي كانوا في السفينة وحلقوا شعورهم على شكل نجمة، كانوا يفرضون ثقافتهم في مواجهة هذا الحشر القسري في بوتقة العرقنة، لكونهم مجردين من سلاحهم الثقافي الموجود مسبقاً. وهم بهذا قد وضعوا حاجزاً مؤسلباً فيما بينهم وبين القوى الاجتماعية الجديدة التي أجبروا على التصارع معها، بدلاً من دخول العالم الجديد بأسلوب الحيوانات التي كانوا يعتبرون منها، غير مزينين، غير موسومين بالإبداع الواعي الذاتي للمعنى. فقد وجدوا قضية مشتركة في الفعل الإنساني في جوهره، تشكل الذات الجمالي.
هي قراءة جميلة لتايلور، ففيها يظهر حجم التمسك بالأصل الأسود للزنوج، والتمسك بالثقافة التي تميزهم عن غيرهم، حتى وإن كانت بتفاصيل صغيرة كحلق الشعر بأشكال مميزة وموحدة. إنهم يصرون على قوتهم الفاعلة والجمال والمعنى في وجه الاضطهاد واليأس والموت.
الجمال الأسود
لماذا ينبغي على الفلسفة أن تهتم بعلم الجمال الأسود؟
إن علم الجمال الأسود هو ممارسة استخدام الفن أو النقد أو لتحليل لسبر الدور الذي تلعبه الموضوعات والممارسات التعبيرية في خلق وصون عوالم الحياة السوداء.
استخدم الناس المتحدرون من أفريقيا الأداءات والموضوعات الجمالية بأساليب وأطر أوروبية لا لمجرد صنع المعنى، بل ليظهروا لعالم متشكك آهليتهم لأجل الثقافة والحضارة. هم يدركون أن الأبيض الأوروبي ينظر إلى الجماهير الداكنة بأنه ينبغي تحسينها وتحضيرها من قبل الأفراد الأفضل، الأكثر ثقافة، الكثر «تأورباً» وأكثر حداثة.
انطلقت في نهاية القرن التاسع عشر مرحلة من التطور في العمل الثقافي الأسود، ويسمي تايلور هذه المرحلة «الحديثة المضادة». وقد امتدت هذه المرحلة حتى منتصف القرن العشرين. كانت حركات الزنجي الجديد والزنوجة هي الأمثلة الأبرز والأكثر تأثيراً تاريخياً على هذه المرحلة. استخدمت شخصيات مثل ايميه وسوزان سيزار وآلان لوك ودوبويز الفن والنقد لتهذيب مقاربات جديدة للهوية والسياسة والثقافة السوداء. لقد واجه هؤلاء وغيرهم الكثير الطموحات العنصرية المضادة للسود والخميرة الاجتماعية للمتروبولات الاستعمارية المتعددة الثقافات بشكل متزايد. واستخدموا مصادر متشابهة، بما فيها الأفكار الأفريقية الجامعة والمناهج التعليمية الغربية، وبشكل أكثر منهجية من ذي قبل.
اشترك هؤلاء المفكرون الحداثيون المضادون بالأهداف الأساسية الثلاثة: أولها إيمانهم بأن الممارسات التعبيرية يمكن أن تظهر الإنسانية والامتياز الإنساني للشعوب الأفريقية؛ وثانيها أنهم لطفوا نزواتهم التحضيرية وتولوا القيام بتطوير الموهبة الثقافية المميزة لأفريقيا إلى العالم؛ وثالثها مطالبتهم بإعادة توجيه الوعي الأفريقي، لكي يتأثر بالاعتراف بقيمة وتماسك وفرادة الثقافة التعبيرية الزنجية.
إزالة الاستعمار
عملت الطبقة الثقافية السوداء على إزالة الاستعمار ثقافياً وسيكولوجياً. وقد قطعت هذه الطبقة النزعة التحضيرية المتمثلة في إسقاط الهدف الموجه خارجياً للتبرير العرقي، واستبدلته بهدف موجه إلى الداخل لاستنهاض الوعي، وحولته إلى مشروع قومي، دفع الحركات التحررية والمناهضة للاستعمار في كل أنحاء العالم في منتصف القرن العشرين إلى الوقوف في صفها.
وهنا أصبح علم الجمال الأسود واعياً لذاته بشكل كامل، وأضحى لاأوروبياً ولاأبيض.، بل أسود أصيلاً، ليتناسب مع الممارسات السوداء. ويقول إثريدج نايت: «ما لم يؤسس الأسود شكلاً جمالياً أسود، فلن يكون له مستقبل على الإطلاق. إن قبول الجمالي الأبيض هو قبول وشرعنة لمجتمع لن يسمح له بالعيش». وأصبح مفهوم «الأسود جميل» شائعاً وثميناً، في مقابل التفوق الأبيض. وشاعت أيضاً «السلطة السوداء» والحركات المناهضة للاستعمار، التي أدت إلى انفتاح المؤسسات النخبوية على كُتاب مثل توني موريسون وول سونيكا، الحائزين على جائزة نوبل.
الوعي الجمالي
في مقابل ترويض الفن، جادل علماء الجمال الأسود في أن مفهوم الفن هو تعبير عن ضيق أفق التفكير الغربي. وأن الثقافات الأفريقية تنحو إلى عدم حبس التعبير الإبداعي بعيداً عن المتاحف، وصالات الحفلات الموسيقية، وصالات العرض، معزولاً عن بقية الحياة.
ومع بروز الوعي الجمالي الزنجي، خرجت أصوات كثيرة أعلنت قوة الأسود سياسياً وفنياً. وهنا ارتبط الفن بالسياسة، لضرورتهما، وأصبحا متلازمين تماماً للتخلص من فكرة الدونية تجاه الأبيض، والتي يروجها هو نفسه ليبقى في مكانه الذي صنعه لنفسه وللأسود. ويمكننا القول أيضاً إن الأبيض قد روج لفكرة اللامرئية، أي أن لا وجود للأسود في نظر الأبيض. إنه احتقار للرجل الأسود.
إن اللامرئية العرقية هي مسألة استخفاف عرقي متعدد المستويات تشير إلى ماوراء دراسة التجربة الإدراكية الحسية والبصرية، ودراسة علم الجمال، إلى قضايا أوسع في النظرية الاجتماعية وعلم الأخلاق. هذه القضايا لها علاقة بالتنظير للعنصرية والاستجابة لها، وبتخيل إقامة العدالة الاجتماعية.
يقول رالف إليسون في روايته «الرجل اللامرئي»: «أنا رجل لامرئي. لا. أنا لست شبحاً مثل ذلك الذي سكن إدغار آلان بو، ولا أنا واحد من أفلام هوليوود. أنا إنسان من مادة، من لحم وعظم.. أنا لامرئي، لأن الناس يرفضون أن يروني. عندما يتقربون مني لا يرون سوى ما يحيط بي، يرون أنفسهم، أو شذرات من مخيلتهم، في الواقع يرون كل شيء أو أي شيء سواي.. إن اللامرئية التي أشير إليها تحدث بسبب مزاج خاص لعيون أولئك الذين أدخل في تماس معهم. إنها عيونهم الداخلية، تلك العيون التي ينظرون بها من خلال عيونهم الجسدية إلى الواقع».
-فلسفة علم الجمال الأسود
-بول تايلور
-الناشر: دار الحوار، اللاذقية
التاريخ11-6-2019
رقم العدد:16997