ملحق ثقافي:
فتنت شخصية مايكل أنجلو الناس وحيرتهم لما يقرب من 500 عام. وقد ألصقت به صفات محتملة، لأنه كان غريب الأطوار وذا طبيعة نفسية صعبة. وقد قال البابا يوليوس الثاني مرة أمام جمهور كبير مشيراً إلى أنجلو: «إنه أمر فظيع، كما ترون، ولا يستطيع أحد أن يتعامل معه».
لقد وسمت الغرابة فناني القرن الخامس عشر وما بعد. وعاش بعض منهم منعزلين كالوحوش. العزلة هي مأساة حياتهم، رغم أنها جعلتهم خيرة الناس.
نشر الناس آلاف الأكاذيب حول أنجلو، ووصفوه بالغريب والذي لا يطاق. هذا مع أن أنجلو كان ينصح الفنانين بشدة بالابتعاد عن الرذائل والفوضى. ولا يمكن لأحد أن ينكر عظمته في فنه، وتفرده في شخصيته القوية والذكية. كان واسع الاطلاع والثقافة، ويتمتع بحماسة فردية مذهلة، وبسحر لانهائي، وهو متحدث بارع، مولع بالأرستقراطية في السلوك، ويتميز بعاطفية أثناء غضبه.
ومثله مثل معظم فناني عصر النهضة، فإنه يعتبر الأعمال الفنية كنظام فكري. والنظام الفكري يتطلب عقلاً لامعاً ورؤية مستقبلية فريدة. وهذه كلها تجعل الفنان يستغرق في عمله، إلى درجة أنه لا يدرك ما الذي يجري حوله. وهذه الشخصية الفنية مملوءة بعاطفة جياشة، تستوعب كل ما تشاهده وتختبره، أو تتوهم به.
يقول بيكاسو: «إن الفنان هو وعاء من العواطف، لا يهم من أين تأتيه». ويقول شاغال: «أنا لا أفهم على الإطلاق.. إنها الصور التي تستحوذ علي، وتسعى للقضاء على جميع العقبات». وأما جاكسون بولوك فيعبر عن عزلته داخل اللوحة كالتالي: «عندما أكون مستغرقاً في لوحتي، لا أكون على معرفة بما أفعل».
ارتبط مصطلح الفردية بمصطلح العبقرية في كثير من الأحيان. الفردية قوامها الإلهام، حيث راج أن الشعراء بحاجة إلى الإلهام. ويدرك القارئ لتاريخ عصر النهضة أن الشعراء والنقاد جلبوا آلهة للشعر من الأسطورة، وأعادوا إحياءهم، والتغني بعطائهم. وكان الشعراء يعتبرون الفن هبة من الطبيعة ولا يمكن أن يكون في متناول الجميع. وإذا كان الفنان مدين في موهبته الفنية الفردية للآلهة، فهو أيضاً يتحدى بذلك التحليل العقلاني لفنه.
هذه الموهبة الفردية الفريدة، جعلت الفنانين يرون قيمة الفن ليس في الوقت الذي يتطلبه عمل ما، وإنما في الموهبة والجمال الذي يحمله والخبرة. وقد أعلن هذا في القرن السادس عشر، حين برز الفن كأساس للنهضة الأوروبية. وقد قال أحد الأساقفة ويدعى أنطونينو: «يجب ألا ندفع للفنانين وفقاً لمدة العمل وكميته، وإنما وفقاً للموهبة والخبرة».
في وقت مبكر من القرن السادس عشر، أدلى فاساري بملاحظة جديرة بالاهتمام، تتعلق بعمل الفنان في بداياته والتغير الذي يطرأ عليه فيما بعد، إذ يقول: «الكثير من الفنانين في رسومهم الأولى يظهرون وهم يسترشدون بنوع من الإلهام، ويحملون قدراً كبيراً من الجرأة، أما بعد ذلك فإن الجرأة تبدأ بالتلاشي والاختفاء».
طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، حاول عدد من الفنانين المحافظة على فطرة الخلق الإبداعي التلقائي، لأنهم توصلوا إلى أن الأعمال أصبحت سطحية. وعلى الفن الآن أن يكون كضوء وتعبير خالص وحقيقة تصدر عن الروح، كما يقول ديلاكروا.
إذاً، يجب على الفنان أن يكون حذراً من التشويش الذي يحيط به، والذي يبعده عن الصفاء الفني والإبداع الحقيقي النابع من الإلهام والروح. إنه بحاجة إلى العفوية، في مقابل الصناعة، بحاجة إلى الموهبة، إلى روح العبقرية.
بقيت الموهبة والعبقرية مفردتان متلازمتان لفترة طويلة من الزمن. يجب أن يكون لدى العبقري موهبة. العبقرية هي ابتكار، خلق لم يسبق له مثيل في الوجود. الموهبة هي قوة الرجل العبقري، كما يقول جيمس لويل.
إذاً، تتميز العبقرية بالجديد الذي تجلبه إلى العالم، ولا يمكن اعتبار النسخ والتقليد شيئاً يدعو إلى تبجيل العمل الفني واعتباره فريداً. فالعبقرية سيادة، والتقليد عبودية بشكل ما. وهذا لا يعني ألا يقوم الفنان باستلهام الموجود التراثي والفني الأصيل، على العكس تماماً، يجب على الفنان العبقري أن يغرق في هذه الأصالة ويعيد تشكيلها بشكل جديد.
لا جدال بين اثنين في العالم على عبقرية شكسبير. وبالنظر إلى مسرحياته، فإننا سنرى أنها مأخوذة من التاريخ، وقد أعاد هو كتاباتها بروحه الخاص وعبقريته الفريدة. وهكذا فقد أقام شكسبير تحالفاً ما بين التقليد والأصالة، وفتح أفقاً لفكر جديد في العالم، لا يمكن أن يقاربه أحد في عبقريته وتجديده. حتى إن ألكسندر بوب يقول: «إذا كان هناك شخص يستحق اسم الأصيل فهو شكسبير»، فالأصالة عبقرية، والتقليد يدمر العقلية المستقلة.
التاريخ11-6-2019
رقم العدد:16997