الثورة – عزة شتيوي:
على حدود الوهم، تتلمس “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) رأسها في الشمال الشرقي لسوريا. وقبل تفاوض مرتقب مع دمشق، يخلع مظلوم عبدي بزته العسكرية باحثاً عن وجود سياسي له، حتى لو كان في كردستان العراق، فيلتقي مع أعداء الأمس في أربيل على طاولة منتدى “التعصب القومي”، لتخرج من تحت تلك الطاولة تصريحات الرئيسة المشتركة للعلاقات الخارجية في “الإدارة الذاتية”، إلهام أحمد، مفجرة المشهد بهجوم مفاجئ لـ”قسد” على نقاط الجيش السوري في بلدة معدان بريف الرقة الشرقي، لتظهر “قسد” آخر ما في جعبتها من أوراق الإفلاس السياسي وحتى العسكري، والرهان الذي لم يكتمل يوماً على حلم كردستان الكبرى أو هواجس “روج آفا” المقنعة بمصطلح اللامركزية في سوريا.
فبعد انضمام سوريا سياسياً للتحالف الدولي ضد “داعش”، خسرت “قسد” معظم أوراقها السياسية وانحسرت في زاوية المطالبة الدولية، وخاصة من واشنطن، بضرورة الاندماج الكلي ضمن الجيش السوري وتنفيذ اتفاق العاشر من آذار/مارس دون مماطلة جديدة أو شروط مسبقة تحت عناوين الانفصال على طاولة التفاوض مع دمشق. إلا أنها، أي “قسد”، تحاول مضغ الوقت بالتصعيد والتصادمات مع الجيش السوري، علّها تقتنص فرصة ما، خاصة إذا ما غازلها نتنياهو باستفزازاته في الجنوب السوري.
وبين تفاصيل المشهدين في الشمال والجنوب وإضاعة الوقت الذي يضيق بالسوريين بانتظار وحدة البلاد، تكسب دمشق ورقة وطنية بامتياز، هي ورقة العشائر العربية التي أعلنت موقفها الداعم لوحدة سوريا من داخل القصر الجمهوري في دمشق، حيث استقبل السيد الرئيس أحمد الشرع، الشيخ مانع حميدي الجربا، شيخ قبيلة شمر، الأربعاء، ما يعني سحب ورقة القبائل العربية السورية من موقع “قسد” التفاوضي والعسكري أيضاً.
ضغط “قسد” على عصب “القومية”
في هذه اللحظات المفصلية، تحاول “قوات قسد” الشد على عصب “القومية الكردية”، متناسية أن المكون الكردي مكون أساسي وأصيل من مكونات الشعب السوري داخل إطار الوحدة الوطنية.
ولكن الإفلاس يدفع “قسد” للبحث عن أوراق تبقيها على قيد حالها العسكري في الشمال الشرقي للبلاد، بعيداً عن تنفيذ اتفاق العاشر من آذار/مارس، حتى لو كلف ذلك قائد “قوات سوريا الديمقراطية”، مظلوم عبدي، تجاوز كل الخلافات مع أربيل والتقاط صورة سياسية له من هناك تعيد خلط الأوراق التي تم ترتيبها على طاولة الاتفاق مع دمشق.
ومن الواضح أن “قسد” تحاول في كل مرة وضع عصا التصعيد السياسي وحتى العسكري في عجلة الحل في الشمال الشرقي لسوريا. وكلما اقتربت طاولة تفاوضية، زادت حدة “قسد” على المنابر السياسية وفي الميدان أيضاً، خاصة بعد أن أشارت واشنطن إلى ضرورة تسريع الاتفاق بين “قسد” ودمشق تحت رعايتها.
فما كان من “قسد” إلا أن تمترست خلف صيحات اللامركزية والانفصال، وبدأت بافتعال الهجمات الميدانية، حيث اندلعت أول أمس اشتباكات عنيفة بعد هجوم شنته “قوات سوريا الديمقراطية” على مواقع للجيش السوري في بلدة معدان، التابعة لمحافظة الرقة شمال شرق سوريا.
وهذا التصعيد يشي بنوايا “قسد” تعطيل تنفيذ اتفاق العاشر من آذار/مارس، ومن أهم بنوده اندماج “قسد” ضمن الجيش السوري.
وحتى اللحظة، لا يعكس الميدان نيات حسنة لقادة “قسد” تجاه الوضع في سوريا، وهي ليست المرة الأولى، حيث شهدت محافظات مثل الرقة ودير الزور وحلب مواجهات بين “قسد” والجيش السوري بعد الاتفاقات وجلسات المفاوضات. ولا تزال “قسد” حتى اللحظة تعزز قواتها على خطوط التماس في ريف حلب الشرقي، وريف الحسكة الشمالي، وريف الرقة الشمالي، وريف دير الزور الشرقي والغربي، مع تكثيف حفر الأنفاق في الرقة والقامشلي والطبقة، وعلى خطوط التماس مع الجيش السوري، إلى جانب استمرار حملات التجنيد الإجباري، في مؤشرات على استعدادها لعمليات عسكرية جديدة وعدم التزامها ببنود الاتفاق. ما يعني أن تطبيق الاتفاق وعودة مناطق الشمال الشرقي إلى سيطرة الدولة السورية لن يتم بسهولة مع بقاء العديد من النقاط العالقة، وخاصة ملف دمج “قوات قسد” في الجيش السوري.
وكان الرئيس السوري، أحمد الشرع، قد طالب خلال زيارة إلى واشنطن الشهر الجاري بضرورة رعاية الولايات المتحدة للاتفاق بين دمشق و”قسد”، مشدداً على أن هذا المسار يمثل خطوة محورية نحو إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية جامعة، مع الحفاظ على وحدة الأراضي السورية.
وتعتبر واشنطن أن دمج “قسد” ضمن القوات السورية قد يفتح الباب أمام تسوية شاملة داخل البلاد. وينص اتفاق العاشر من آذار/مارس الماضي على دمج المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة لـ”قسد” ضمن أجهزة الدولة، بما في ذلك إدارة المعابر الحدودية وحقول النفط والغاز.
ويهدف الاتفاق، الذي وصفته أوساط دبلوماسية بأنه أهم وثيقة سلام سورية منذ سنوات، إلى إنهاء حالة الانفصال الإداري والعسكري في شمال وشرق البلاد، تمهيداً لعودة تلك المناطق إلى سلطة دمشق الكاملة.
أوراق القوة بيد دمشق
في مقابل التعنت من قبل “قوات سوريا الديمقراطية”، تمتلك دمشق الكثير من أوراق القوة، أهمها الالتفاف الشعبي الكبير وراء خيار الوحدة الوطنية ورفض المشاريع الانفصالية، والدعم غير المحدود من قبل دول العالم لحكومة دمشق الجديدة، خاصة أن الولايات المتحدة باتت تعتبر دمشق شريكاً رسمياً في مكافحة تنظيم “داعش”، الأمر الذي بالضرورة يجعل “قسد” شريكاً لواشنطن عبر اندماجها مع الجيش السوري وضمن القرار السياسي لدمشق.
كما أن الدولة السورية قادرة على تفكيك “قسد” من الداخل عبر التواصل مع العشائر العربية وسحب بساط القبائل من الأرضية العسكرية لـ”قوات سوريا الديمقراطية”. إلا أنها، أي دمشق، تعتمد حتى اللحظة على سياسة الاستيعاب رغم رسائل التأييد القوية التي أرسلتها العشائر العربية للحكومة الجديدة في دمشق، والتي كان آخرها استقبال السيد الرئيس أحمد الشرع في قصر الشعب للشيخ مانع حميدي الجربا، شيخ قبيلة شمر. وجرى خلال اللقاء الحديث عن مستجدات الأوضاع في المنطقة الشرقية، والمساعي الرامية إلى إدماج المنطقة بشكل كامل ضمن مؤسسات الدولة السورية والبنية الوطنية.
وحتى اللحظة، تتجنب دمشق أي تجاذبات في شرق وشمال شرق البلاد بين “قسد” والعشائر، وتسعى لحصر الحلول ضمن التفاوض تحت الأنظار الدولية. وهذا لا يعني أنها عاجزة عن سحب ورقة العشائر من يد “قسد”، كما يقول المحلل العسكري، العميد أحمد حمادة، في لقائه الخاص لصحيفة “الثورة”، حيث علق على زيارة الشيخ مانع الجربا بأنها زيارة مهمة تظهر الوجه الوطني الحقيقي للعشائر العربية السورية، كعشيرة شمر والعكيدات وغيرها من العشائر التي تسعى لتوحيد البلاد تحت سقف الوطن وبقيادة الدولة السورية الجديدة.
وبحسب العميد حمادة، فإن موقف العشائر اليوم يسحب الذرائع من “قسد” والادعاءات بأنها تمثل منطقة الجزيرة بأكملها، في حين أن الانفصاليين من “قسد” لا يمثلون إلا المصالح الضيقة لقيادات قنديل وغيرها من هذه التسميات الهجينة على الشعب السوري.
الحبل السري بين “قسد” وإسرائيل
تزامن استفزازات “قسد” في ريف الرقة مع استفزاز غير مسبوق من إسرائيل، حيث ظهر رئيس حكومة الاحتلال متوغلاً في الجنوب السوري في مشهد غير مسبوق وغير مقبول، يظهر محاولات كل من “قسد” وإسرائيل قلب طاولات التفاوض والتسوية التي يحاول المجتمع الدولي فرضها. وهذا ما يمنح الشرعية الكاملة لدمشق بالدفاع عن وحدة أراضيها، ويضع “قسد” في موقع حرج رغم محاولاتها المناورة، كما تقول التحليلات السياسية.
إذ يقول العميد أحمد حمادة إنه “عندما نرى مجلس الأمن والولايات المتحدة ودولاً عديدة في الإقليم والعالم العربي بكامله، وخاصة المملكة العربية السعودية، نراهم جميعاً يؤيدون وحدة الأراضي السورية ويرفضون القبول بتجزئة الأراضي السورية، فهذا يعني أن مشروع قسد الانفصالي ومشروع إسرائيل الاحتلالي انهزما سياسياً في هذه المنطقة، وانتصرت الدولة السورية الجديدة. والدليل على ذلك كم الزيارات واللقاءات التي يقوم بها السيد الرئيس أحمد الشرع ووزير الخارجية السيد أسعد الشيباني باتجاه كل دول العالم، وحتى إلى الصين وروسيا. كل هذا يدل على سيادة ووحدة الدولة السورية التي أُعلن استقلالها عام 1946″.
ويضيف العميد حمادة أن مشروع كل من إسرائيل و”قسد” وبعض الفئات الانفصالية وغيره لن تنجح، فسوريا لا تقبل القسمة، ولن يقبل الشعب السوري وحلفاؤه بالتقسيم، لأن ذلك يهدد دول المنطقة بأكملها.
“قسد” بين إظهار القوة ومحاولات التخريب
تُظهر “قسد” توتراً واضحاً في خطابها الإعلامي وممارساتها الاستفزازية على الأرض. وبين سطور تصريحات قادتها، تُقرأ تفاصيل شيطان الانفصال. وبينما ترمي الإعلام السوري باتهامات التصعيد، كما ظهر في تصريح لإلهام أحمد، إلا أنها هي من تقود حملة إعلانية غير مسبوقة للانفصال تحت شعار اللامركزية.
وفي تعليقه على تصريح إلهام أحمد، يقول العميد أحمد حمادة إن “هذه التصريحات تشي بأن قسد لا تزال بعيدة عن تصور اتفاق العاشر من آذار/مارس، خاصة أن رئيسة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية، إلهام أحمد، صرحت لوكالة تسمى (روج آفا غرب كردستان)، ما يعني الاستمرار بالعزف من قبل قسد على نغم الانفصال بطريقة أو بأخرى. ويبدو أنهم، أي ‘قوات سوريا الديمقراطية’، حتى الآن ينتظرون حدثاً إقليمياً ربما يستفيدون منه، أو قد يصنعون حدثًا ما. والدليل ذهاب مظلوم عبدي بهيئة سياسية ليزور شمال العراق في محاولة لإظهار جسم كردي خارج عن حدود منطق الدولة الوطنية”.
ويؤكد العميد حمادة أن كل تحركات “قسد” اليوم تجري خارج نطاق اتفاق العاشر من آذار/مارس الموقع بين الرئيس أحمد الشرع ومظلوم عبدي في إطار الوحدة السورية.
في الربع ساعة الأخيرة، تحاول “قوات سوريا الديمقراطية” اللعب في الوقت السياسي الضائع، وقبل أن تصطدم بشكل مباشر بحائط انسداد مشاريعها، وقبل أيضاً أن توضع على المحك السياسي لتطبيق اتفاق العاشر من آذار/مارس مع الدولة السورية، تحاول العبث بطاولة المفاوضات وخلط الأوراق. إلا أنها تعرف عبر تاريخ المنطقة، وتحديداً سوريا، أن حلم ليلة الأمس السياسي الذي نامت فيه “قسد” على هدهدة مشروع “روج آفا” و”كردستان الكبرى” منذ مئة عام، هو فقط ورقة للابتزاز في دروج البازارات السياسية.