ملحق ثقافي..د. محمود شاهين:
مع تعاظم النشاط الفني التشكيلي السوري، وازدياد عدد صالات عرضه، ودخوله بورصات ماليّة كبيرة، وقيام ظاهرة التبني والعقود الاستثماريّة مع عدد من العاملين في حقوله، ووصوله إلى المزادات العربيّة والدوليّة، والارتفاع الكبير في أثمان بعض إفرازاته، تزداد هواجس الفنان التشكيلي السوري، وتتعاظم وتيرتها، بتأثير هبوب رياح العولمة العاصفة الطامحة إلى فصله عن جذوره الممتدة عميقاً وبعيداً في تربة الحضارة الإنسانية، وإلغاء تراثه العريق، حضن أسمى القيم الإنسانية، وأنبل الأهداف التي وازنت ببراعة وانسجام، بين حاجة الإنسان الماديّة وحاجته الروحيّة، وتالياً تذويب خصوصيته وتفرده، تمهيداً لإلغاء هويته، وخلق الأنموذج الواحد، لكل الشعوب والأمم، لأهداف خبيثة، لم تعد خافية على أحد.
أمام هذا الواقع الزاخر بالتحديات، وفي إطار من التوجه الوطني والقومي والإنساني النبيل، وجد الفنان التشكيلي السوري نفسه أمام خيارات عدة، لصون نفسه وهويته وتراثه، من هجمة التذويب والتضييع والاعتداء المتربصة به، ومن ثم إثبات وجوده الحضاري الفاعل والمتفاعل، فيما يجري حوله، عبر اللغة التعبيريّة العالمية الهامة والمؤثرة التي يشتغل عليها، والقادرة على السفر إلى الناس في كل أصقاع العالم، لمصافحة عيونهم، وملامسة أحاسيسهم، والتحاور مع أفكارهم وعقولهم، ذلك لأن الفنون التشكيليّة كالموسيقى، لغة عالمية، لا تحتاج إلى ترجمة أو شرح أو وسيط، للوصول والتفاعل مع المتلقي، أياً كانت جنسيته، أو لغته، أو حتى ثقافته!!
لقد وجد الفنان التشكيلي السوري نفسه، أمام عدة خيارات، لمنح الفن الذي يشتغل عليه، خصوصية الأرض التي جاء منها، والإرث الحضاري الكبير والمتلون الذي ينتمي إليه، وملامح العصر المتحول الذي يعيشه، مضمناً إياه في الوقت نفسه، رؤاه ومواقفه الذاتية، مما يجري حوله من أحداث، وساكباً فيه ثقافته النظريّة والبصريّة التي كوّنها بالبحث والتجريب والدراسة والاطلاع.
تَنوّع بحث الفنان التشكيلي السوري عن الصيغة الأمثل، للخروج بمنتوج فني يحتضن هذه النزعات والتطلعات، ويتضمن اللغة التشكيلية الحديثة، بكل أساليبها واتجاهاتها. شمل بحثه شكل المنتوج الفني ولغته البصريّة، كما شمل المضمون أو الفكرة، وكان تواقاً لإقامة حالة عالية من التوافق والانسجام، بين هاتين الخصيصتين الأساسيتين لأي عمل إبداعي، يطمح للوصول إلى الناس، والتأثير بهم، وكسب احترامهم وتقديرهم. بدأ الفنان التشكيلي السوري بحثه بالموضوعات والمضامين الوطنية، فأخذ البنية الشعبيّة للإنسان السوري وهمومه وقضاياه وتطلعاته ورموزه الخاصة، ثم وسع الدائرة لتشمل الحالة العربيّة فالإسلاميّة، وذلك عن طريق البحث في المعطيات التراثيّة العربيّة والإسلاميّة وما تمخض عنها من فنون اتسمت بالجمع الموفق، بين القيم الجماليّة والاستعماليّة للعمل الفني.
في البداية انكب على استلهام التاريخ البعيد لأمته، فاستل منه بعض الرموز والمفردات التي قام بتوظيفها في نتاجه الفني، إشـارة منه وتدليلاً على هذه الحضارة العريقة والهامة. بعد ذلك اقترب أكثر، فاستلهم المحطات البارزة والمشرقة في التاريخ العربي الإسلامي، ثم انكب على فنون هذه المرحلة، فأخذ الزخارف والخطوط وأعاد صياغاتها، وفق رؤية معاصرة، باحثاً عن صيغة مقبولة للتوفيق بينهما. ثم عاد واصطفى الحرف العربي، فاعتمده المعمار الأساس في لوحته، وبنى عليه لوحة جديدة، متنوعة الصيغ والأساليب، سرعان ما تطورت وانتشرت لتشكل تياراً حاضراً في الحياة التشكيليّة السوريّة والحيوات التشكيليّة العربيّة بشكلٍ عام، هو تيار (الحروفيّة) الذي دخل إليه الفنان التشكيلي السوري والعربي، من باب البحث عن فن قومي، لأن الخط العربي في الأساس، من الرموز القومية، لكن لم تكن مساعي هذا الفنان من أجل مزاوجة الدلالة التجريديّة والجماليّة للخط العربي، مع قيم التشكيل المعاصر، بالمسألة السهلة، بل كانت على الدوام، مهمة شاقة وصعبة، ولا تزال كذلك حتى الآن.
لقد اعتقد بعض الفنانين التشكيليين السوريين، أن المضمون المعاصر المقدم من خلال صيغة فنيّة تشكيليّة مستمدة المفردات والرموز، من البيئة المحلية، قد يكون كافياً، لتأكيد هويته الخاصة. واعتقد بعضهم الأخر، أن الحرف العربي، والزخرفة الإسلاميّة، أكثر ملائمة لتحقيق المراد. آخرون لم يشغلوا بالهم كثيراً في هذا الهم، فعكفوا على تقليد التيارات الأوربيّة المعاصرة، بغثها وسمينها، موضوعاً وشكلاً. وهكذا تعددت واختلفت نظرة الفنانين التشكيليين السوريين إلى هم المواءمة بين التراث والمعاصرة، ومما عمق أرق هذا الفنان، ودعاه إلى التململ والبحث عن التمايز، زحمة التيارات والاتجاهات الفنية التشكيليّة الأوربيّة التي سادت الفن العالمي المعاصر، وانتقلت إليه بكثافة وسرعة قياسية، صابغة حياته الثقافيّة بصبغتها، وملونة فنه بألوانها.
فقد وصلت إلى الساحة التشكيليّة السوريّة المعاصرة كافة المدارس والاتجاهات والأساليب والصيغ الفنيّة الأوربيّة الحديثة، وأمامها كان لابد للمشتغلين في حقولها المختلفة، من وقفة مراجعة وتأمل وبحث، عن الصيغة الأمثل للخروج بفن خارج دائرة الاستنساخ البارد، أو التكرار الآلي، أو التقليد الأعمى. فن يحمل نبض أرضه وتاريخه وتراثه، ويحمل في الوقت نفسه، نبض عصره، بكل أبعاده الكشفيّة الهامة والمذهلة. وبالتدريج، بدأ الفنان التشكيلي السوري يسعى لحل هذه الإشكاليّة الهم، فعمل على المزاوجة بين التقنية الأوربية والمضمون المحلي، سواء المأخوذ من الحياة حوله، أو المستوحى من التراث الذي اختلفت النظرة إليه، وتعددت التفسيرات له، وتنوعت الاجتهادات بضرورته للمنتوج الإبداعي المعاصر أو عدمها.
كيفيّة التوفيق بين التراث والمعاصرة، سجال لازال قائماً في كافة الحيوات التشكيليّة العربيّة، بل وفي كافة الحيوات الثقافيّة، لأن هم المواءمة بين التراث والمعاصرة، هو هم عام طاول كافة ألوان الثقافة العربيّة المعاصرة، ومنها الثقافة البصريّة المتمثلة بالفنون التشكيليّة والسينما والتلفاز والمسرح وغيرها، ولازال الشغل الشاغل لغالبية العاملين في حقولها.
ما يسجل للحياة التشكيليّة السوريّة المعاصرة، استقبالها لكافة التيارات والاتجاهات التي فرزتها الحياة التشكيليّة العالميّة، ثم هضمها وتمثلها لكل ما هو متزن وجاد وعميق وحقيقي فيها، وتالياً لفظها للغث والطارئ والشاذ والآني والعابث والمريض الذي طفح على جلد الفن العالمي المعاصر، خلال النصف الأول من القرن الماضي، غير أن الذين أوجدوه، سرعان ما قاموا باستبعاده ولفظه، بعد أن وصل إلى طريق مسدود، واستنفد بهلوانياته وصرعاته الخاوية البائسة والمريضة. والغريب اللافت، أن تسعى هذه الأيام، جهات وصائيّة على الفن التشكيلي المعاصر في عدد من الدول العربيّة (لاسيّما في مصر ودول الخليج العربي) لإحياء هذه الصرعات وتبنيها وتعميمها.
الحياة التشكيليّة السوريّة، لم تتأثر حتى تاريخه بفنون الصرعات القائمة على التجريد العابث الضائع والمُضيّع والتي أخذت أكثر من مسمى أو مصطلح، منها: الدادائيّة، والتجريديّة، والطليعيّة، وما بعد الطليعيّة، والمفاهيميّة، والتركيبيّة.. وغيرها، وذلك لأنها محصنة ومصانة، بوعي والتزام الفنان التشكيلي السوري، وجديته في البحث والتطور الهادئ، المتزن، المفيد، والمكرس للثقافة الإنسانيّة الرفيعة القادرة على أن تبقى وتعيش وتستمر. أما الهواجس والإشكالات الأخرى، التي عاشتها وتعيشها، الحياة التشكيليّة السوريّة المعاصرة فهي لا تنسحب عليها فقط، وإنما تطول كافة الحيوات التشكيليّة في الشرق الأدنى وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، خاصة بعد أن شعر الفنان التشكيلي في هذه الدول، بالخطر الداهم الذي يحمله تيار العولمة إلى ثقافته الوطنيّة، وموروثه القومي، ووجوده بكامله.
هذا التململ الذي يعيشه الفنان التشكيلي السوري المعاصر، مظهر صحي وصحيح، يؤكد وعيه الشديد، وصدق انتمائه لأرضه وشعبه وأمته، وتالياً إخلاصه لفنه وأدوات تعبيره، ووضوح رؤيته ورؤاه، للحراك الذي تعيشه حركة الفن العالمي المعاصر، ما يجعلنا مطمئنين لمستقبل الفنون التشكيليّة السوريّة المعاصرة التي تحاول جاهدة أن تكون ابنة عصرها، وابنة الأرض التي جاءت منها في آنٍ معاً.
على هذا الأساس، يجب على المعنيين بإعادة اعمار سوريّة، الاهتمام بالمنجز التشكيلي السوري، بشقيه (الصالوني) و(النصبي) والعمل على نشره وتعميمه، لما له من دور هام في عكس حضارة سوريّة القديمة والجديدة، لاسيّما وأن هذه الفنون المقروءة والواضحة، قادرة على الوصول إلى كل الناس، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم، خاصةً منها الأعمال التي تسكن في العراء: في الشوارع والساحات والحدائق ومداخل المدن وعلى واجهات الأبنية، فهي على تماس يومي مع الناس، وأول ما يطالع الزائر لوطننا، ما يجعل منها عناوين بارزة لتقدمه، وإشارة لما يمتلكه من موروث حضاري ضارب في تربة الحضارة الإنسانية الرفيعة.
التاريخ11-6-2019
رقم العدد:16997