ما زال شبح الفقر يطرق بعض أبوابنا غير أبه بوجع مضيفيه الدراويش ، يطيل المكوث تقشفا و حرمانا ، ليرسم باللون الأسود تفاصيل حياة فقراء ، و يخطف اللقمة من أفواههم و ينهش مفارش موائدهم المهترئة و ينثرها هباء ، فتتلاشى أحلامهم المتواضعة بلقمة حلال و ستر على مقاس جسد ، حيث الشبع لا يعرف طريقه إلى عصافير بطونهم لتكف عن النق ، و عرق الجبين لا يكاد يملأ أطباقهم بما يسد الرمق و لا يلبي أبسط احتياجاتهم المعيشية الضرورية .
«على قد اللحاف»
محمد « أبو طارق» فقير مستجد من إنتاج أزمة ، لم يكن يلقى العناء في تلبية متطلبات أسرته قبل أن تشتعل نار الأسعار لتطال السلع كافة ، و كان شراء كيلو من اللحم لا يشكل كارثة مادية تؤدي إلى انهيار ميزانية شهرية ، يعمل موظفا نهارا وبعد الظهر ينطلق ليعمل سائقا على «تكسي عمومي «، ليعود ليلا بما تيسر من طعام يتمنى يوما ما أن يشبه ما يراه على شاشة التلفاز ، أو يحاكي رائحة طبخ الجيران الميسوري الحال ، و لكن عليه أن يمد رجليه على « قد لحافه » الذي أصبح لايكاد يغطي ركبتيه ، و ما هي إلا الوعود التي يحقنها كمسكن يخفف نق الأولاد الذين يقارنون أنفسهم بأولاد الجيران وزملائهم في المدرسة ، و يوجعون قلبه عندما يتساءلون لماذا نحن لسنا مثلهم ؟
مستورة
عندما تسألهم عن أحوالهم يسارعون إلى خزائن عفاف النفس ، ليكونوا حامدين شاكرين نعم الله عليهم ، يقبلون أيديهم ظاهرها و باطنها مبدين رضا و قناعة بما قسمه الله من رزق لهم ، ألسنتهم لا تلعن الفقر رغم قسوته و جبروته، و أيديهم لا تعرف سبيلا لاستجداء أو استعطاف خير الآخرين، مهما ضاقت بهم الحال و تقطعت بهم السبل و خارت بطونهم، لا تنطق أفواههم لدى الاطمئنان عن أحوالهم إلا عبارة « الحمد لله مستورة « .
كان ذاك لسان حال أم أحمد التي عايشت الفقر منذ زمن، فشبت و قاربت المشيب في حضنه، ما تجنيه من مال لقاء تنظيف المكاتب و العيادات في منطقة المرجة ، لا يكفي خبزا و ما تيسر من بطاطا تسلقها لاعداد وجبة الغداء، لتكافح جوع أطفالها الذين تطارد عيونهم ما تعرضه واجهات المحال التجارية ، فتحرك رغباتهم الدفينة لتجريب ما يجهلون طعمه ، فتسارع لنسج الأكاذيب عن مضار العصائر و الشيبس ، و تستفيض بالحديث عما تلحقه الوجبات السريعة من أضرار بالأجساد ، و كأني بها تقول « الذي لا يطال العنب ..حامض عنه يقول» ، حدثتني بالقول ً كثيرا ما ألجأ إلى اللف و الدوران و التحايل، خاصة عندما يطلبون الشاورما و البروستد، فأدعي الخوف من طريقة إعدادها البعيدة عن النظافة، كما ألجأ أحيانا إلى البدائل والتلاعب بطريقة تقديم الطعام ، كي يقارب نوعا ما ما يشاهدونه في الشوارع والدعايات الاعلانية في التلفزيون ، وبين الحين و الآخر أحاول وضعهم في صورة وضعنا المادي الفقير و تسليحهم بالقناعة و حمد الله على كل شيء.
المستورون في حضرة الفقر كثر ، رغم صولاته وجولاته مستبيحا مساحة أمان مادي ، ما زالت عزة النفس تفرض نفسها بقوة، لم تزعزع ثباتها أفواج متسولين يغزون شوارعنا ليمارسوا فنونهم في استعراض الفقر والعاهات و الأمراض كوسيلة ابتزاز و استعطاف ، فماء وجوههم أثمن من أن تراق في مد يد الحاجة ، فهم يترفعون عن طلب مساعدة مادية و يدارون فقرهم بوسائل شتى ، تحسبهم ميسوري الحال و هم في أشد حالاتهم ضيقا .
الوصول إلى المستورين يبدو مهمة صعبة تحتاج للبحث ، و النظر إلى ما وراء الوجوه و تقصي حال الجيوب، و أبعاد دخل مادي لا يغطي نصف الشهر إلا بالكاد ، حنان أم لاربعة أطفال التقيتها برفقة طفلتها و هي خارجة من عملها كمستخدمة في معمل للكونسروة ، و قد بدت في مظهر لائق لا يقارب مظهر فقيرة حال ، لم يبد فقرها إلا من خلال حديث تناول أسفها على تكسر طبق « ناعم « ابتاعته لطفلتها بعد إلحاح شديد ، و هي التي تعيش في بيت مستأجر على العظم، و زوجها الذي يعمل في العتالة و لا يستطيع أن يلبي جميع احتياجات المنزل مهما زادت ساعات عمله ، تقول : للتعايش مع الفقر لابد من اتباع فنون التحايل مع القلة و عدم وفرة الكثير من الضروريات ، أعمل لأساعد زوجي و لا نمد أيدينا لنتسول و نهدر كرامتنا ، و المرأة المدبرة تستطيع أن تستر عائلتها بتدبير و تدوير الأشياء كالطعام والملابس ، الحمد لله مستورون .
بين الترف والتقشف
و من أساليب التعامل مع الفقر و التعايش مع القلة، غالبا ما يتبع الفقراء أسلوب تقليص عدد الوجبات من ثلاثة إلى اثنتين وربما واحدة ، و تعزيز الشعور بالشبع و الامتلاء بالاكثار من النشويات و البقوليات والأطعمة الرخيصة وبدائل اللحوم، كما يلجؤون إلى ربط عدد الوجبات اليومية ونوعيتها بالدخل اليومي والاستقرار المادي ، و حرصا على الأطفال من معرفة الأطعمة الغالية و التي يجهلون طعمها ، يلجأ بعض الأهل إلى فرض قيود على المواد الغذائية التي يتناولها أولادهم حرصا منهم على ألا يعتادونها أو تدخل في ذاكرتهم الغذائية فتشكل عبئا نفسيا و ماديا .
بالقناعة و الرضا و مزيد من أساليب التحايل و الذكاء، يستطيع الفقراء رغم افتقادهم للكثير من الضروريات البقاء على قيد الحياة ، و الاستمرار في خوض معركة البقاء مع تحديات يومية و مقاومة مغريات شتى ، و غض الطرف عن مشاهدات تزرع الحسرة و الغصة ، و الابتعاد عن عقد المقارنات بين استهلاك يتمرغ بالترف و استهلاك غارق بالتقشف و الحرمان .
منال السماك
التاريخ: الثلاثاء 18-6-2019
الرقم: 17003