الملحق الثقافي:منهل إبراهيم:
وخزت رائحة قادمة من الثمانينيات ذاكرتي التي ظننت أنها لن تختزن الكثير مع وصولها إلى حواجز كثيرة.. ذاكرة بلغت من الكبر عتياً، لكنها لم تتوقف في الزمن.. تلك الرائحة كانت أقوى وأعمق من أن تتلاشى خلف ضباب السنوات الذي يتكاثف رويداً رويداً مع تعاقب فصول العمر..
رائحة “كسبرينا” القرية.. الرائحة التي حملت معها روائح وروائع ممزوجة بشمس حزيران وتموز وآب ومقدمة أيلول تسكن أنفي رغم رحيل النبتة الخضراء العبقرية..
روائح الحيطان الثمانينية وروائح الحر في حواكير “الدخان” حيث لم يبقَ منها بعد القطاف سوى سيقانها الخضراء والبنية، تزاحمها بعض شتلات “البندورة”، وتزاحم فكري وقد بانت من بعيد خدودها الحمراء والخضراء التي شجعت أسراب الدوري على غزوها… طعمها الحار الذي يغلي كـ “ماء تموز” مازال حاضرا في فمي.. وكأنني للتو نزلت بقدمين حافيتين أبحث عن “جراد” صغير لأعود به إلى عصافير بقصبها البارز التي تلوح منها ألوان الشمس وقد سرقتها من عشها الأصيل المنتمي لزيتونة أو سنديانة أو “باطورة” أو كومة حطب، آوى إليها طائر “أبو حمرة” الجميل الذي ارتبك بقدوم الصبية ففضحه خوفه على صغارهن وكشف أمر عشه مكرهاً من الحرص، فراح يمثل دور الطائر مكسور الجناح ليرشد إلى الصغار بدلاً من أن يبعد القادمين عن العش..
كنا نحرص على صغار الطيور كحرص آبائها عليها.. ونخطئ في التقدير.. لكن البراءة كانت دوماً تقودنا إلى انتزاعها من بيوتها ظناً منا أننا سنقوم بتربيتها.. ليس الذنب ذنبنا.. ربما ذنب تلك الطيور التي تقودنا ترانيمها الملكية بلا وعي فنتبعها.. ذكر أصفر اللون بسواد جميل على الرقبة والرأس وقف على قمة عرشه الخرنوبي وراح يصدح، فحمل حلمنا الصغير نحو كتل صغيرة صفراء ترمقنا ببراءة كما نظراتنا البريئة إليها.
التاريخ: الثلاثاء9-7-2019
رقم العدد : 16019