الملحق الثقافي: د. محمود شاهين:
يتقصى كتاب (تاريخ الكتابة) (تأليف يوهانس فريدريش – ترجمة د. سليمان أحمد الضاهر) عملية تطور الكتابة من مرحلة الكتابة الصوريّة، إلى مرحلة الكتابة بالفكرة، وصولاً إلى مرحلة الكتابة بالكلمة، فالكتابة المقطعيّة، فمرحلة الكتابة الأبجديّة التي ابتكرها الفينيقيون، ضمن منظومة كتابيّة بسيطة تقوم على 24 رمزاً من طراز صامت + صائت.
يرى الكتاب أن الكتابة من أهم الإنجازات الحضاريّة الإنسانيّة، لأنها والحديث الشفوي يمثلان الأنواع الأساسيّة للتخاطب، ويمكن أن نضيف إليهما الحركات الإيمائيّة، وهذا النوع من التخاطب تعرفه الحيوانات، لكن الكتابة بالحروف ليست الشكل الوحيد للكتابة، بل هي فقط أحد أشكالها المتعددة، ومن الخطأ الاعتقاد أن المبتكر القديم للكتابة استطاع ابتكار الكتابة الأبجديّة من الفراغ. فمفهوم الصوت المفرد، ولاسيّما الصوت الصامت، الذي نُدركه في المدرسة الابتدائيّة لا يُعد استيعابه بالنسبة إلى الإنسان البدائي أمراً سهلاً وبديهياً، ففي عملية اختراع الكتابة لم تسقط الأبجديّة من السماء. كما أن إدراك المقطع كأحد أجزاء الكلمة، يمثّل صعوبة كبرى بالنسبة إلى الإنسان البدائي، لذلك من البعيد جداً أن يكون المخترع القديم للكتابة قد توصّل مباشرة إلى تجزئة الكلمة بلغته إلى مقاطع، ومن ثم بدأ بتأسيس الكتابة المقطعيّة من لا شيء.
من جانب آخر، ارتبطت الكتابة ارتباطاً وثيقاً بالثقافة وتطور الإنسانيّة العام، ما جعلها تضطلع بمهمة عظيمة في تاريخ الإنسانيّة المبكّر، وقد قدم الشرق القديم للعالم أول كتابتين هامتين هما: الكتابة المسماريّة، والكتابة الهيروغليفيّة المصريّة، كما نشأت في الشرق الكتابة الأبجديّة الساميّة (يعود تاريخ هذه الكتابات إلى الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد) وعلى هذه الكتابات بنت أوروبا كتاباتها.
بعد أن يستعرض الكتاب الإبداع العظيم للكتابة في العالم القديم، ويقف عند بنيتها ورموزها، ومراحل تطورها، يتحدث عن الانقلاب الكتابي، ونشأة الكتابة الأبجديّة السامية في الشرق القديم، والمنظومات الكتابيّة الخليطة المسماريّة والصامتة، خاصة كتابة أوغاريت التي اكتشفت في القصر الملكي الأوغاريتي الواقع على الشاطئ السوري قرب مدينة اللاذقيّة، والذي يعود تاريخه إلى القرنين الخامس عشر والثالث عشر قبل الميلاد. كما يُشير إلى اكتمال نشأة الأبجديّة والكتابة اليونانيّة، ونشأة الكتابة الأوروبيّة، ويُفصّل في الأنواع الكتابيّة المختلفة، ويُعدد خصائص الكتابة الصامتة، والكتابة الأبجديّة، وكتابات آسيا الوسطى المشتقة من الآراميّة، والكتابة بالكلمة عند الصينيين والفيتناميين واليابانيين والكوريين، ثم يُشير إلى الكتابات المبتكرة في أنحاء العالم المختلفة، وصولاً إلى ابتكار الكتابة المعاصرة في أمريكا وأفريقيا وسيبيريا، وينتهي إلى وضع ملاحظات ختاميّة حول تطور الكتابة التي طمحت في البداية، إلى التعبير عن الفكرة بوساطة الرسوم التي يجب أن تكون مفهومة وواضحة للجميع، وبدون أية علاقة صوتيّة، ولكن مع نشأة الكتابة الألفبائيّة، أصبح هدف الكتابة هو نقل الصوت، وبذلك تنتهي الكتابة بالمفهوم، لأن التعبير عن الأفكار لم يعد بطريقة الرسوم، بل عن طريق الصوت، لكن في بعض الحالات، كان لابد من تدوين الأفكار بوساطة الرموز لتكون مفهومة في جميع أنحاء العالم، بصرف النظر عن أن لكل شعب لغته الخاصة. من هنا فالوسيلة في الفهم السريع للنص، تنهض به الكتابة الصوريّة القديمة، مثال ذلك شاخصات المرور، فليس دائماً، وفي كل مكان تكون اليافطة بثلاث لغات أو أكثر، بل من الأسهل أن يُستعمل رسم واحد مفهوم للجميع: فرسم السيارة البيضاء مثلاً على خلفيّة الشاخصة الزرقاء تعني مسموح المرور، ورسم السيارة الحمراء على خلفية الشاخصة البيضاء تعني وفقاً لأنظمة المرور ممنوع المرور. في هذه الحلة يلعب اللون الدور الأساسي.
يتوقف الكتاب (كما يُشير المترجم) عند نظرية الكتابة: نشأتها وتطورها التدريجي، ويُعالج جميع الأنظمة الكتابيّة في العالم، منذ فجر التاريخ حتى الوقت الحاضر. كما يرصد مراحل التطور التاريخي للكتابة التي اجتازها الانسان، مُفسراً المصاعب التي واجهها مبتكر الكتابة في تاريخه الطويل، في تمييز الأصوات، ويبيّن أن طريقة ابتكار الكتابة كانت أمراً تدريجياً وفي غاية الصعوبة. ولذلك جاءت فصول هذا الكتاب دراسة تحليليّة، تناولت بالتفصيل دراسة العلاقات البنيويّة والمنطقيّة والتاريخيّة بين أربعة أنظمة كتابيّة مختلفة، مرت بها الإنسانيّة وهي:
_ الكتابة بالفكرة (الايديوغرافيا).
_ الكتابة بالكلمة (اللوغرافيا).
_ الكتابة المقطعيّة (الصوت الصائت يندرج ضمناً في الصوت الصامت).
_ الكتابة الأبجديّة (وتُدوّن الصوامت والصوائت)
ويُقدّر المؤلف عالياً الدور الذي قامت به الحضارة السامية في تاريخ الانسانيّة قائلاً: إن التطور الأوروبي الكبير ومتعدد الجوانب، يبدو مُقلداً وسلبياً، بشكل مطلق، بالمقارنة مع الشرق القديم الذي ابتكر أول كتابة للإنسانيّة. فالكتابة تعود بجذورها إلى أصول سامية شرقيّة، حيث ابتكرت الكتابة لمرة واحدة وإلى الأبد، لكن يجب ألا نخلط بين الكتابة الصوريّة وفن الرسم، علماً أن الحدود بينهما غير واضحة تماماً. فاللوحة الفنيّة هي انطباع عن شيء ما، تمت رؤيته أو معايشته فكرياً، أما الغاية في فن الرسم بأن تكون اللوحة موضوعاً للتأمل الفني والجمالي، بينما في الكتابة الصوريّة، فالقيمة الجماليّة للرسم ليست أمراً مطلوباً وهاماً في معظم الأحيان، فالرسم في الكتابة الصوريّة (تقريبي محض) وهو فقط وسيلة لنقل الخطاب.
في الواقع تُستخدم الكتابة الصوريّة الأسلوب نفسه في الرسم الذي تستخدمه الكتابة بالموضوعات، فالإنسان أو الحيوان أو الشيء، يمكن أن يرسم بشكل كامل مشتملاً على كافة الأجزاء، أو عكس ذلك، يمكن أن يرسم بطريقة اصطلاحيّة مختصرة. فالماشية يُعبّر عنها بشكل مختصر برسم الرأس، والمفاهيم المجردة يمكن التعبير عنها رمزياً، فالبرودة رُمز لها بالمياه الجارية، وفعل أكل رُمز له بإنسان يرفع يده إلى فمه، وهكذا فإن مهمة الكتابة البدائيّة ليست نقل الخطاب صوتياً، بل نقل مدلول الخطاب، إلا أنه عن طريق اللغز الصوتي يمكن استبدال الكلمة التي لا يُعبّر عنها بالرسم برسم آخر يكون من حيث الصوت إما نفس الصوت، أو صوت مشابه له، حتى وإن لم يكن بين الرسم والمعنى المقصود أية علاقة دلاليّة.
وتنشأ الحاجة لهذا النوع من الإبدال، عندما نبغي نقل الاسم عن طريق الكتابة الصوريّة. ويمكن أن نسوق مثالاً الكتابة الصوريّة البدائيّة عند شعب الأستيك. فالكتابة عندهم تنقل الواقع عن طريق الرمز، فالقوس والسهم رمز للحرب، والجمجمة رمز للموت، والعين الدامعة رمز الترمل. بالمقابل استعملت شعوب الشرق القديم، على مدى عدة قرون من الزمن، أنظمة كتابيّة متعددة ومتنوعة، ولكنها تنتمي بشكل عام إلى طراز واحد، وكانت هذه الأنظمة الكتابيّة مزيجاً من الرموز الدالة على كلمات كاملة، ورموز مقطعيّة، أو رموز الوحدات الصوتيّة (كما في مصر) ورموز التقييد أيضاً. وهكذا أسست كلتا الكتابتين العظيمتين في الشرق القديم. أي الكتابة المسماريّة والكتابة المصريّة، وكذا كانت بنية الكتابة الهيروغليفيّة الحثيّة، وبشكل أبسط نوعاً ما الكتابة الخطيّة الكريتيّة، بصرف النظر عن الكتابات الأخرى التي لم تُدرس بشكل كافٍ.
إن صعوبات مختلفة تنشأ في حقل الكتابة بالكلمة. بالرسم من السهل حصول التمثل العقلي للأشياء المحددة: فالكائنات الحيّة (رجل، امرأة، جندي، حصان، طير، جُعل، سمك) أو الموضوعات مثل: (زهرة، عين، محراث، شمس) أو الأفعال المدركة حسياً، أي المفاهيم ذات النشاط الحركي مثل: (ضرب، أكل، طار، بكى) يمكن نقلها برسم إنسان باكٍ، أو برسم إنسان يبتلع الطعام، أو شارب للماء، أو عصفور طائر، أو عين تنهمر منها الدموع. فأحياناً في مثل هذه الأحوال، وتسهيلاً للأمر استعاضوا عن الرسم الكلي برسم جزئي، هذا إذا كان الرسم الجزئي ينسحب على كل المفاهيم، فرأس الثور حلَّ محل مفهوم الماشية، ولكن كيف يستقيم الأمر بالنسبة إلى الأفعال والمفاهيم المعنويّة التي لا تُدرك حسياً مثل: (العمر، بارد، حكم، تكلم)؟ في هذه الحالة استعانوا بوصف الرسم، فدونوا هذه المفاهيم كما عبّر المصريون مثلاً عن فعل (حكم) برسم الصولجان. وفعل (تكلم) برسم إنسان يده في فمه، في هذه الحالة يحل الجزئي محل الكلي، فالفعل (مشى) لا يُعبّر عنه بإنسان يمشي بشكل كامل، بل بقدمين متحركتين، و(سمع) برسم الأذن. الرسم هنا عبّر عن المفهوم، ولكن لم ينقل صوت الكلمة.
التاريخ: الثلاثاء9-7-2019
رقم العدد : 16019