رغم الضجة الأميركية المثارة بخصوص صفقة منظومة الصواريخ الروسية «إس-400» التي ستتسلمها أنقرة من موسكو في وقت قريب، وتهديدات واشنطن بإلغاء صفقة طائراتها الأكثر تطوراً «أف 35» مع تركيا كنوع من الرد الأميركي على صفقة الصواريخ الروسية، إلا أن القضية ليست بهذه البساطة بحيث تبدو أنقرة «الأطلسية» وكأنها في حالة خلاف أو صراع مع شركائها في الأطلسي وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية وما تمثّله من قوة هيمنة على مستوى العالم، وأكثر قرباً والتقاءً بروسيا التي حجزت لنفسها مكاناً مهمّاً في التنافس على مناطق النفوذ والسيطرة على حساب الدول الغربية.
من يراقب السياسة التركية «الاردوغانية» المتذبذبة على الأقل منذ بدء الحرب الإرهابية على سورية سيجد فيها الكثير من الجدل والتناقض على قاعدة ضمان المصالح التركية وفق موازين الصراع القائمة، بحيث تتقاطع مصالحها في لحظة مع مصالح إيران في الوقت الذي يتواجه الطرفان على الأرض على خلفية فهم كل منهما لما يعنيه مصطلح الحرب على الارهاب، وأحياناً تتقاطع مصالحها مع مصالح الولايات المتحدة بخصوص دعم الإرهاب في سورية بينما نجدهما على طرفي نقيض حين يتعلق الأمر بما يسمى المسألة الكردية، وكذلك الأمر مع روسيا حيث من الصعب تحديد نقاط التقاطع والافتراق بينهما بين يوم وآخر وأكبر مثال ما يجري على جبهة إدلب حيث تقف تركيا بكل ثقلها مع الإرهابيين في هذه الجبهة في حين تقف روسيا إلى جانب الدولة السورية في استعادة هذه الجغرافيا من أيدي الإرهابيين، في الوقت الذي تتعزّز فيه علاقاتهما الاقتصادية والتجارية والسياسية والعسكرية ونشهد تواصلاً في الحوار والتنسيق على مسارات عديدة بشأن ما يجري في سورية.
من الواضح هنا أن أيّاً من أطراف الصراع والتنافس الدولي على هذه المنطقة غير راغب بالتخلي عن تركيا كحليف عسكري أو اقتصادي أو سياسي انطلاقاً من المكانة التي تشغلها تركيا كموقع جيوسياسي واستراتيجي، ما يسهّل على نظام أردوغان اللعب على مختلف الحبال السياسية في المنطقة والتلون سياسياً حسب الظروف الدولية كما تفعل الحرباء.
وعلى هذه القاعدة والفهم ثمة من يشكك بنوايا أردوغان بخصوص صفقة الصواريخ الروسية على اعتبار أنه لم يتخل بعد عن الدور التركي الوظيفي الموكول لبلاده ضمن استراتيجيات حلف الناتو وهو الدور الذي كان موجهاً بصورة رئيسية لمحاصرة روسيا وخنقها ومنعها من استعادة دورها وحضورها في هذه المنطقة أو الوصول إلى المياه الدافئة.
وفي هذا السياق نشرت صحيفة «سفوبودنايا بريسا» الروسية مقالاً تساءلت فيه عمّا إذا كان هناك اتفاق بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية بشأن شراء الأولى منظومة الصواريخ الروسية «إس-400»، بطريقة تكون روسيا الطرف الخاسر.
وقالت كاتبة المقال (ما الخطورة في إرسال إس-400 إلى تركيا؟) ليوبوف شفيدوفا، إنه سيبدأ أخيراً تسليم منظومات الصواريخ الروسية المضادة للطائرات من طراز إس-400 إلى تركيا.
وأضافت: «يمكن القول إنها صفقة القرن، إذا أخذنا في الاعتبار الضغط الذي تعرضت له تركيا بسببها، ولكن، منذ وقت غير بعيد، أخذ الحديث عن عقوبات واشنطن منحى مختلفاً»، ورأت الكاتبة أن ذلك حدث بعد حديث الرئيسين الأميركي دونالد ترامب مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان في قمة مجموعة العشرين.
حيث أكد أردوغان إن كل شيء مع العم سام على ما يرام، فلا يبدو أنه يمانع، وترامب نفسه، قال إنه يتفهم أنقرة، ويعتقد بأن التعامل معها جرى بطريقة غير عادلة.
وهكذا، بدأت تتسرب الشكوك إلى كواليس الصفقة، إذ ثمة من رجّح بأن أردوغان اتفق مع ترامب بشأنها بطريقة تجعل روسيا خاسرة، فتسليم الصواريخ إلى تركيا، سيعني إمكانية وصول كوادر فنية أميركية للمنظومة الروسية لمعرفة أسرارها، ولا سيما أن الأميركيين مازالوا أصحاب الكلمة الفصل في تركيا من البوابة الأطلسية.
وفي المقابل ثمة من يستبعد حصول هذا الأمر، بالنظر إلى أن المجمع الصناعي العسكري الروسي والأميركي تطوّراً بشكل مستقل تماماً عن بعضهما البعض، بالإضافة إلى أن النسخة المصدرة إلى تركيا مختلفة جذرياً عن النسخة التي يستخدمها الجيش الروسي.
على المقلب الآخر ثمة من يعتقد أنه كلما ابتعدت تركيا عن الدوران في مدار الغرب زادت الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية عليها، لأن الغرب وعلى رأسه واشنطن لا يريد لتركيا أن تقترب من روسيا الذي تشكّل «حسب زعمه» التهديد الأكبر لمصالحه.
غير أن التحالف الأطلسي بين أوروبا وأميركا بدأ يفقد قدرته على تحديد القواعد العالمية، مع بروز مراكز قوى جديدة في مناطق مختلفة من العالم تقوم بوضع قواعدها الخاصة.
ومع تسارع خطر انهيار النظام الغربي يزداد القلق الأميركي من تصاعد حضور، المحور العالمي الجديد المكون من الصين وروسيا وكذلك تركيا التي تبدو قريبة منه على حساب تحالفها مع الغرب.
فواشنطن عجزت عن كبح سياسة التمدد الصينية، وهذا ما أكسب بكين مواقع مهمة لتحقيق التوازن مع الولايات المتحدة في 4 قارات و3 محيطات من خلال مشروع «حزام وطريق»، في حين فشلت حروب ترامب الاقتصادية ضده.
في حين أن أكبر ضربة تلقتها واشنطن جاءت من روسيا التي زادت نفوذها في أوروبا الشرقية والبلقان والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، وأصبحت مركز جذب حتى لبعض حلفاء واشنطن ومنهم تركيا.
وقد عزز النجاح الروسي في أزمات أوكرانيا وسورية وفنزويلا وكوريا الديمقراطية التقارب مع الصين، كما بدأت موسكو بالتقارب مع الفاعلين في نطاق النفوذ الأميركي سواء الهند وباكستان ومصر والعراق وأفغانستان إلى جانب السعودية بشكل ما.
يرى البعض أن تركيا بدأت بالتخلص من الوصاية الأطلسية، واتباع سياسة تمنح الأولوية لمصالحها القومية.
ولهذا يرجح هذا البعض أن تقلب صفقة ال «إس-400» مخططات واشنطن ومقاوليها رأساً على عقب في المنطقة وأن تكون سبباً في انتقال النظام التركي إلى الضفة الأخرى رغم عدم الوثوق بتقلبات أردوغان تحت ضغط الأزمات التي يتعرّض لها.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الخميس 11-7-2019
رقم العدد : 17021