الملحق الثقافي:منار أبو بكر:
لأنّ الليلَ طويلٌ أكثرَ من اللاّزم، كالأماني، ودروب العاشقين، وجديلةُ جارتنا السمراء. والقلوب تنامُ كما يغفو الصغيرُ على كتفِ أبيه المنهك من عملِ النهار، ذاكَ الأب المبتسم الذي يشتري الحبّ في طريق عودته إلى البيت.
لأنّ الحاراتَ القديمة تحملُ ريحاً لا تعرفُ مغزاها، لكنّها تثيرُ فيكَ مشاعرَ الذكريات في كلّ مسامةٍ من جسدكَ المنتفض، سرتُ كثيراً حتى أنهكتني قدماي.. ولأنني وحيدةٌ أكثرُ ممّا يجب، أجلسُ على رصيفِ الشارع، بينَ وريقات الخريف اليابسة، التي جاهدتْ لتبقى، لكنّها أدركتْ مؤخراً أنّ مصيرها الانخلاع.
هنا أجلس، وضوءُ عامودِ الإنارة مشرقٌ أكثر من أيامي. تلوحُ نسائمُ المساء عابثةً بشعريَ الأسود، ولأشردَ في المكان، حيثُ لا شيء غيرَ السكون المزعج، ومعهُ صوتُ جارةٍ تداولت عنها القصص أنّها عقيمة، ولا تنجب إلاّ الخزيّ، ها هي الآن تبكي سنواتَ حبّها لرجلٍ فضّل الأطفال عليها، وهو على ما يبدو يخبرها بموعدِ زواجه الثاني هذه اللحظة. لتنتحبَ وتشارك عويلها هذا المكان، لاعنةً الرحمَ اليابس المنبوذ، كعصا ذاكَ العجوز الذي يسند الأرض بها، وينظرُ إليّ من بعيد كأنّه وجد ضالتهُ في تشردي الواضح، ليقتربَ مني ويهمس بحزنٍ ما استطاع إخفاءه: يقولون إنّ الليل يرشدُ التائهين بنجومه وقمره، ويأخذهم إلى الذين هاجروا مع قلوبنا وما عادوا حتى الآن، وها أنا يا بنيتي أسيرُ في هذه الطرقات من عشرِ سنوات ولم أجد ابني المفقود، فهل مرّت ملامحهُ على شرودك الثقيل، أم أنّ الدروبَ كاذبة تريدُ من يؤنِس وحدتها فقط.
وقبلَ الإجابة التي لا أعرفها أصلاً، يكملُ مسيرهُ حاملاً صورةً ممزقة أغلبُ الظّن أنّكم عرفتم من صاحبها.
لأننا بشر وقلوبنا خَرِبة، وأوجاعنا لا تنتهي، ولأنّ المساءَ مُتعب، ويشعرُ بالنُعاس، وملّ القصصَ العابرة والحزينة التي يرويها كلّ يومٍ كما يفعلُ الأجداد. ولأنّ كثيراً من أحلامنا كانت على غيرِ مقاساتنا الرّثة. والحزنُ هو الابن الأكبر لهذا الكوكب. أترككم على بساطهِ، فافرشوه ودثرّوا أنفسكم، وناموا فما أجمل النوم، فأنا وأنتم متعبون.. كما الليل، كما الحكايات، كما الشهقات العالقة بين مفترقِ الأنفاس، كطفلٍ أنهكهُ البكاء بعدَ كومةِ صفعات.. أنا وأنتم متعبون، يا أبناء الزوال.
التاريخ: الثلاثاء5-11-2019
رقم العدد : 972