إذا كنت باحثاً منصفاً وتريد قراءة أي حدث عالمي مفاجئ يتخلله اضطرابات أو فوضى وتطور الأمر إلى انقلاب سياسي أو عسكري في بلد من البلدان، فعليك أن تمعن في البحث عن الدور الأميركي الخبيث، وخاصة إذا كان هذا الحدث المفاجئ في بلد يواجه سياسات الولايات المتحدة الأميركية العدوانية والاستعلائية كما هو الحال اليوم في أميركا اللاتينية التي تعتبر حديقة خلفية لأطماع واشنطن ونفوذها في العالم، حيث انضمت بوليفيا البلد ذو التوجه الاشتراكي البوليفارية مؤخراً إلى قائمة الضحايا بأحداث دراماتيكية تنذر بالأسوأ وخاصة بعد إلغاء الانتخابات الرئاسية وإجبار الرئيس المنتخب إيفو موراليس على الاستقالة من منصبه واللجوء إلى بلد آخر ودخول بلده في حالة فوضى احتجاجات وأعمال عنف تشبه إلى حد ما أحداثاً شهدتها أميركا اللاتينية ودول أوروبية وإفريقية ودول أخرى في الشرق الأوسط .!
لا نبالغ إذا قلنا أن الرئيس المستقيل يملك شعبية واسعة في بلاده، فهو أول رئيس في تاريخ أميركا اللاتينية ينتمي إلى السكان الأصليين في بلاده، كما أنه ينتمي إلى الحركة الاشتراكية التي قام بتأسيسها، وإلى عائلة من المزارعين البسطاء، وقد أعيد انتخابه في 20 تشرين أول الماضي لولاية رابعة مدتها ست سنوات، لكن منظّمة الدول الأميركيّة ــ وهي منظمة دولية مقرها واشنطن ــ طالبت بإلغاء نتيجة هذه الانتخابات الرئاسيّة واتهمت منظميها بالتزوير، كما طالبت بإجراء انتخابات جديدة (يتوافر) فيها كما تدعي ضمانات لحسن إتمامها، في دعوة مبطنة لتدويل الأزمة، وأعقب ذلك وقوع احتجاجات عنيفة أدت إلى سقوط قتلى وجرحى واعتداء على مؤسسات الدولة ــ ويبدو أنها كانت مخططة مسبقاً ــ من أجل الضغط على الرئيس المنتخب لإجباره على الاستقالة، في سيناريو مكرر عن السيناريو الفنزويلي مع فارق أن الرئيس نيكولاس مادورو صمد بكل شجاعة في وجه الضغوط الأميركية، ولم يستسلم لأجندات المعارضة الفنزويلية المدعومة بشكل علني من واشنطن.
ولعل ما يجري في بوليفيا حالياً قريب الشبه في مكان ما بما حدث في فنزويلا عام 2002 حيث جرت محاولة انقلابية فاشلة ضد الرئيس الراحل أوغو تشافيز نظمتها بعض الأوساط العسكرية والمالية والنقابية، وقد وُجهت أصابع الاتهام بالمسؤولية عن ذلك الانقلاب إلى الولايات المتحدة، حيث لم تكن راضية عن سياسة تشافيز لأسباب عدة، منها علاقته الخاصة بالرئيس الكوبي الراحل فيدل كاسترو، وزيارته للعراق وليبيا، وانتقاده الغزو الأميركي لأفغانستان، والتزامه الحياد في حرب النظام الكولومبي ضد الثوار الشيوعيين، إضافة إلى ذلك لم ترق الإصلاحات الاقتصادية لتشافيز لواشنطن، وخاصة بعد أن أعلن استعادة السيطرة على شركة النفط الوطنية، وفرضه ضرائب مضاعفة على شركات النفط الأجنبية في فنزويلا، والتي كانت في معظمها شركات أميركية، لتصبح فنزويلا في المرتبة الثالثة من حيث اعتماد الولايات المتحدة عليها في استيراد النفط عام 2002.
تاريخ طويل من التدخلات الأميركية
لو تتبعنا مسار الأحداث في أميركا اللاتينية خلال الستين سنة الماضية، لوجدنا أنها مليئة بالتدخلات الأميركية وحالات العبث بمصائر شعوب ودول هذه المنطقة، بزعم أنها الحديقة الخلفية لواشنطن وسياسة الهيمنة التي تنتهجها، فهناك حالات من الغزو الأميركي لبلدان وتدخلات عسكرية في بلدان أخرى، وضغوط سياسية واقتصادية ودبلوماسية طالت بلدان أخرى لإسقاط أنظمة الحكم فيها، وانقلابات عسكرية دموية مدعومة من واشنطن كما حدث في التشيلي، ولا يختلف متابعان في أن كوبا كانت الدولة الأكبر نصيباً من سياسات العداء والعدوان والتدخل الأميركي في شؤونها الداخلية، إذ تفيد بعض المعطيات إلى تعرض الرئيس الراحل فيديل كاسترو إلى أكثر من 600 محاولة اغتيال وجه فيها الاتهام لواشنطن مباشرة، وهناك إقليم في الجزيرة الكوبية لا يزال محتلاً من قبل الولايات المتحدة الميركية..فمن لا يعرف المعتقل الرهيب سيء الذكر الذي أنشأته واشنطن في غوانتنامو الكوبية..!
كوبا.. صراع لأكثر من نصف قرن
قطعت الولايات المتحدة علاقتها مع كوبا منذ 1961 مع تصاعد حدة الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفياتي سابقاً، وفرضت عقوبات اقتصادية قوية على هافانا استمرت طوال نصف قرن تقريباً.
وبدأ الخلاف بين كوبا والولايات المتحدة بعد وصول فيدل كاسترو إلى سدة الحكم إثر إطاحته عام 1959 بحكم الرئيس فولغينسيو باتيستا المدعوم من واشنطن.
وأثار قرار كاسترو تأميم بعض الشركات الأميركية العاملة في كوبا وقيامه في عام 1960 بشراء النفط من الاتحاد السوفياتي غضب واشنطن، وأدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة لتبدأ بوصلة كوبا في التوجه ناحية الاتحاد السوفياتي.
وبسبب هذا التقارب أصبحت كوبا ساحة قتال، وفي نيسان 1961 قادت الولايات المتحدة محاولة فاشلة لإسقاط حكومة كاسترو حيث جندت جيشاً خاصاً من المنفيين الكوبيين لغزو الجزيرة، وفي خليج الخنازير مني الغزاة بهزيمة منكرة وقتلت القوات الكوبية كثيراً منهم وأسرت ألفا آخرين.
وبعد عام على محاولة الانقلاب الفاشلة رصدت طائرات الاستطلاع الأميركية قواعد لصواريخ سوفياتية في كوبا، الأمر الذي أصاب العالم بالفزع من الانزلاق إلى حرب نووية شاملة.
ووقفت القوتان العظميان وقفة الند للند، لكن الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف بادر بسحب الصواريخ من كوبا في مقابل سحب الأسلحة الأميركية من تركيا.
ومنذ ذلك الوقت أصبح كاسترو العدو الأول للولايات المتحدة، وحاولت الاستخبارات الأميركية اغتياله أكثر من ستمئة مرة كما جاء على لسان أحد الوزراء الكوبيين.
غواتيمالا.. عقود من الحرب الأهلية
سنة 1999 اعترف الرئيس الأميركي بيل كلينتون خلال زيارته إلى غواتيمالا بدور بلاده في الحرب الأهلية التي أودت بحياة نحو مئتي ألف شخص.
وأقر كلينتون بأن واشنطن دعمت المؤسسة العسكرية والاستخبارات في غواتيمالا اللتين قمعتا بعنف الحركات المعارضة، خصوصاً تلك التي تمثل السكان الأصليين من عرقية الـ(مايا).
وبحسب ما تم الكشف عنه، فقد كان لواشنطن دور في تسليح المتمردين والقوات شبه العسكرية لتدخل البلاد عصراً مظلماً من الانقلابات والاقتتال والعنف دفع المدنيون تكلفته الباهظة.
البرازيل.. وأد التجربة الديمقراطية
تخوفاً من أن تصبح البرازيل (صين الستينيات) عملت المخابرات الأميركية على الإطاحة بالرئيس البرازيلي جواو غولارت الذي اعتبرته (شيوعياً صريحاً).
وتولى أومبرتو كاستيلو برانكو قائد أركان الجيش البرازيلي نهاية آذار 1964 تنفيذ المهمة التي خططت لها واشنطن.
ومن عام 1964 حتى 1985 رزحت البرازيل تحت حكم عسكري دكتاتوري قمع الحريات وعذب المعارضين اليساريين وسحق حقوق الإنسان.
وعام 2014 وخلال إحياء الذكرى الخمسين للانقلاب العسكري قالت الرئيسة البرازيلية آنذاك ديلما روسيف إن (البرازيل استطاعت تضميد جراحها لأنها تنعم بديمقراطية متينة)، مشيرة إلى ضرورة تذكر ما جرى في الماضي والتحدث عنه.
يشار إلى أنه اختفى نحو خمسمئة شخص أو قتلوا قبل وبعد الانقلاب العسكري، كما أسر الآلاف ومنهم روسيف التي سجنت لمدة سنتين بسبب مناهضتها الحكومة العسكرية التي شكلت بعد عزل الرئيس البرازيلي غولارت.
ولاتزال التدخلات الأميركية مستمرة في البرازيل حتى يومنا هذا وقد نجحت في إيصال رئيس يميني محسوب على واشنطن إلى سدة الرئاسة مؤخراً جايير بولسونارو بعد أن عاشت البرازيل حقبة من الاشتراكية والاستقلالية عن واشنطن في العقدين الماضيين على يد الرئيسين السابقين لولا داسيلفا وديلما روسيف.
الأرجنتين.. فصول تاريخ مظلم
في آذار 2016 قال الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إن سياسة الولايات المتحدة الخارجية تعلمت الدرس من أخطاء الماضي، من بينها التورط في انقلاب الأرجنتين، في حين وصف الرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري ذلك الانقلاب بأنه (أظلم فصول تاريخنا).
وقبل أربعة عقود وتحديداً في 24 مارس/آذار 1976 دعمت واشنطن انقلاباً عسكرياً قاده الجنرال خورخي فيديلا الذي استولى على السلطة عقب إطاحته بالرئيسة إيزابيل بيرون.
ومنذ توليه الحكم عاشت البلاد سنوات وصفتها المنظمات الحقوقية بالسوداء، وخلفت – وفق تلك المنظمات- مقتل ما بين 15 وثلاثين ألف شخص، في حين قالت السلطات حينها إن عددهم يقارب ثمانية آلاف.
وعلى الرغم من وفاة فيديلا عام 2013 أثناء قضائه عقوبته في السجن بسبب انتهاكات حقوق الإنسان فإن الأرجنتين كانت وما زالت تصب جلّ غضبها على الولايات المتحدة الأميركية التي دعمت انقلابه.
بنما.. تحالف فانقلاب فغزو
في عام 1983 تولى الجنرال مانويل نورييغا حكم بنما، وكان يعرف عنه أنه كان حليفاً للولايات المتحدة خلال جهودها لمنع انتشار النفوذ الشيوعي بأميركا الوسطى، وقد تجسس لصالح وكالة المخابرات المركزية الأميركية.
ولم يشفع ما قدمه نورييغا له، فقد اتهمته واشنطن رسمياً في شباط 1988 بتهريب المخدرات إلى الأراضي الأميركية، كما كانت هناك أدلة تشير إلى تعامله مع أجهزة مخابرات مختلفة.
وفي عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الأب أغارت القوات الأميركية في 20 كانون الأول 1989 على بنما وأطاحت بنورييغا الذي سلم نفسه للأميركيين الذين حكموا عليه بالسجن أربعين عاماً بتهمة تهريب المخدرات وغسل الأموال، وأفرج عنه بعد مضي 21 عاماً منها لحسن سلوكه.
وقد أطلق على عملية غزو بنما اسم (القضية العادلة) وراح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف شخص، بينهم العديد من المدنيين.
فهذا غيض من فيض السياسات الأميركية العدوانية التدخلية في أميركا اللاتينية والقائمة تطول، وهناك بالتأكيد أسرار كثيرة لم يكشف النقاب عنها حتى الآن.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الجمعة 15-11-2019
الرقم: 17123