التفاهمات الوطنية هي الأساس الموضوعي الذي تبنى عليه الخيارات التي يحدّدها الشعب في سبيل الوصول إلى أهدافه الكبرى على صعيد الحياة الاجتماعية ومقتضياتها الإنسانية، وعلى صعيد الحياة الاقتصادية وما فيها من تلبية مُرضية للحاجات الأساسية للعيش الكريم والكرامة الوطنية.
وما بين المعادلتين تظهر الحياة السياسية وما تستلزمه من قدرة عقلانية على إدارة الشؤون العامة، والخاصة للمجتمع والفرد بآنٍ معاً، وكلما اتّسعت دوائر التفاهم في الوسط الاجتماعي الاقتصادي السياسي اتسعت معها على المقلب الآخر القدرة الوطنية، والمناعة الكاملة في التصدي الحاسم للتحديات الداخلية منها، والخارجية.
ومن جبهات التحدي تتبدّى صورة الوحدة الوطنية التي تقوم على متانة التحالف الوطني بين فرقاء الوطن المعنيين، فالتفاهم هو الذي يؤسس للحوار الإيجابي البناء، والحوار كأسلوب، وآلية عمل مشترك، وطريقة تفاهم ينطلق دائماً من فهم الآخر، وقبوله، والإيمان بوجوده، وضرورة التعامل معه، ولا سبيل إلى إقصائه مهما تعسّرت أنماط الحركة، وأشكال السلوك إذ لا بد من مراعاة صورة الذات، وماهية الآخر حتى تنتقل القضايا الوطنية من إطار المحال إلى إطار المعقول، ومن المعقول إلى الممكن في التنفيذ وهنا تتحول التعارضات إلى المقاربات المشتركة، والخصومات إلى منهج من الاقتراب خطوة خطوة من الآخر حتى يتمّ لاحقاً وصول المقبول إلى التشارك والتشاركية في الفهم المشترك لقضايا الوطن والناس ويوضع سلّم الأولويات الوطنية المنطلق من الأكثر أهمية في التعاطي معه ومن بَعْدُ المهم الذي لا يمكن إغفاله، أو تجاهله في الرسم الجديد للجيوسياسية الوطنية، وكذلك الإقليمية، ومن ثم الدولية.
وفي إطار ما واجهته بلدنا سورية خلال السنوات التي قاربت على التّسع نتوقّف عند حقائق مهمة طبعت بوطنيتها حراك الشعب حين كانت الأغلبية الساحقة من شعبنا مستوعبة منذ اللحظة الأولى لانطلاقة ما أطلقوا عليه ربيع العرب ولذلك لم تضللها الميديا الدولية التي سُخّرتْ لاختراق عقيدة الناس وثقافتها فسقط الكونترول الخارجي، واصطدمت مفاهيم الإدارة من الخارج مع مفاهيم التمسك بالوطن الواحد، والكفاح المشترك من أجله والإدارة الداخلية له وفيه، ثم سقطت المنهجية المصطلحية التي خططوا لها لكي تحقق لهم هزيمتنا المعنوية والميدانية، حيث استخدموا المفاهيم الافتراضية وتصوّروا بأنهم يجبرون الشعب على الهزيمة الافتراضية، ولقد اجتهدوا لكي يعلنوا سقوط المدن وهي صامدة عبر فبركةِ شاشةٍ وجماهيرٍ وانتصاراتٍ وهمية من مهمتها زعزعة صمود الشعب، والتأثير على معنوياته الوطنية وقد أسقط شعبنا بوعيه وصلابة تمسكه بثوابته كل هذه الأحابيل.
وكم اجتهدت الميديا العالمية، ومَنْ سُخِّرَ لها من خبراء ومحللين لكي يقنعوا شعبنا بأن الحرب بينه، وليست عليه، وأن الحرب أهلية طائفية وليست إرهابية وهّابية، وأخوانية، وأن الذي يحدث في بلده هو من أجله وليس ضده، وأن الأغيار الذين يراهم هم إسلام من دينه وأتوا من أجل خلاصهِ، وازدهار حياته، وكذلك لم تُفلح هذه الأكاذيب في إزاحة ثقافة الوطنية عند غالبية الشعب وسقط مُخطِّطوها.
ثم حين صارت تتولى زمرة الإرهابيين شؤون الحياة في المناطق التي تحقّقت لهم فيها سيطرة وقف شعبنا على حقيقة هؤلاء الغرباء القادمين بين صفوف المرتزقة الدوليين، وتنحصر مهماتهم على اختراق قواعد تفكير الشعب والتأثير على ثقافته الجيوتاريخية حتى ينقسم ومن ثمّ يتقسّم. وفي مثل هذا الحال لم تكن ظاهرة الحوار الوطني غائبة، والدليل أن الشعب عبرها قد وقف عند تفاهمات عززت من لحمته في وجه مقسّميه، وعمّقتْ من وعيه في وجه مضلليه، ووسّعت تحالفه في وجه مستهدفيه. وشحذت همته في وجه من خطط لتدميره، وتقسيم أراضيه.
فالحوار كان وما زال منهج التفاهمات الأهم في الخط الكفاحي لشعبنا وهو يطرد الإرهاب من كل بقعة من أرضنا الغالية، لكن الحوار ليس معطى جامداً، ومادة متصلّبة بمقدار ما هو آلية نوافذها مفتوحة على كل تجديد، أو تفعيل، أو حيوية وتحديث، وبه تختبر مصداقية التبنّيات، وصلاحية الشعارات، وقوة ما تمّ التمسّك به من ثوابت، وهنالك معادلٌ طرديٌّ فيه، وعكسي كذلك أي كلما كانت دوائر الحوار متسعة كانت عملية إنتاج الأفكار، وتجديد العقل أكبر ومفتوحة على العلم والاحتمالات الأكثر يقينية علمية.
وكلما ضاقت دوائر الحوار وتضيّقت ضمر الوعي، وتراجع العقل واستبدت في التفكير والواقع أشكال ضيق الأفق، والرؤى الأحادية، والآفاق المسدودة، فالحوار هو الآلية الوحيدة لاستخدام العقل الجمعي، والإبداع المجتمعي، وفيه نتمكن من زجّ الطاقات الوطنية في التيار المتحالف الواسع لتتحقق الوحدة النفسية، والروحية، والاجتماعية، والثقافية والسياسية للناس في المجتمع الواحد وحين يؤكد السيد الرئيس في لقائه الأخير مع الشباب على الحوار بوصفه يفتح المجال للإبداع الذي تفتقره المؤسسات الحكومية كما قال فإن ذلك يحثّنا جميعاً على التفكير المشترك بالكيفيّات اللازمة لنا لكي نجترح برامج التلاقي على الحوارات الوطنية التي تتناول قضايا المجتمع والناس الملحّة، والمصائر الوطنية الحسّاسة حتى يتمّ رسم خارطة العمل الوطني المبدع تحت شعار: وطن الجميع يحرره الجميع ويبنونه بإرادة مشتركة ويضمنون مستقبله وإزدهاره.
وحين يلتقي السيد الرئيس بالشباب ويتحاور معهم يؤكد على الحقيقة الوطنية الأهم، والوطن يسير نحو نصره الميداني تلك التي تشير إلى أن الشباب علاقتهم بالمستقبل، وارتباطهم به أكثر من جيل الكبار في الوطن فالكبار كانوا بناة الماضي والحاضر، والشباب هم بناة المستقبل. وتقاس قوة المجتمعات بمقدار ما تملك من شبابٍ واعد. وكذلك الأوطان تقدّر فوائض القوة فيها بما يقدمه شبابها من القوة البانية، أو المحررة كذلك. وعليه الانتباه إلى أن الشباب أهم أولوية في تحديد هوية الوطن القادم. وبناء الشباب وتنشئتهم التنئشة السلمية هو الضمانة الكافية للوصول إلى الوطن المنتصر المقبل على الحياة بمزيد من الأمل، والطموح. وشباب الوطن اليوم هم أدوات انتصاره خاصة حين يتولّون دورهم عبر الانخراط الميداني بمعركة الوطن ضد الإرهاب، أو ضد الوجود الأجنبي غير الشرعي على الأرض السورية، أو حين يبدعون في الجيش الإليكتروني لشباب سورية، ويستخدمون الحرب السيبرانية كما تتطلبه معركة الوطن ضد حلف العدوان الإرهابي عليه. وحين يوسّعون دوائر الوعي الوحدودي عند الشعب في بلدنا لتسقط مخططات القوى الانفصالية المرتبطة بالأميركي والمراهنة عليه.
إذاً على الشباب مهمات يجب أن يندبوا أنفسهم إليها قبل أن نندبهم نحن خاصة فيما يتعلّق بتعميق مقاومة الوطن ضد الاحتلال الأمروأطلسي لمناطق من الجغرافيا السورية، نعم إن قضايا الشباب اليوم عبر الحوار هي قضايا الوطن المكافح ضد الحرب الإرهابية عليه، وضد التدخل الأمروأطلسي الأعرابي المتأسلم في شؤونه الداخلية، وما العدوانات المتكرّرة من كيان العدوان الصهيوني على سورية إلا دليل على السياسة الأمروصهيونية المتغطرسة التي تحاول أن تعوق الانتصار الناجز للدولة الوطنية السورية على الإرهاب ولكي لا تجد أميركا نفسها مرغمة على الانسحاب من آبار البترول السورية، ولكي تمنع الحل السياسي الوطني السيادي في سورية الذي يحقق طرد الوجود الإرهابي والعسكري غير الشرعي على الأرض السورية ويتم الإعلان عن الجمهورية العربية السورية دولة موحدة أرضاً وشعباً وسيادتها كاملة على أرضها وثرواتها الوطنية التي هي ملك تاريخي لشعبها التاريخي.
بقلم: د. فايز عز الدين
التاريخ: الخميس 21 – 11-2019
رقم العدد : 17128