ثمة من يعتبر العمل الفني, أيا كان نوعه, شعراً أو رواية أو قصة, رسما كان أم نحتا, هو عمل لاإرادي, بمعنى أن فكرة ما, أو مشهدا ما, أو حادثة تقع في نفس الفنان فيتأثر بها وتسيطر على إحساساته, إذا لم نقل أنها تحتل كيانه, ولاتتركه حتى يفرغ ماتركت في نفسه, ولن يتمكن من أن يستعيد توازنه إلا وقد عبر عنها بأدواته, حيث هو, فيجسدها بقصيدة أو بقصة أو بتمثال نحتي.
ومن الطبيعي, أن لايصدر هذا العمل إلا عن إنسان موهوب ذلك أن الموهوبين يتسومون بدقة ورقي الإحساس من جهة, والقدرة على الإنجاز والعمل الفني من جهة أخرى.
وقد يمر الإنسان العادي بما يمر به الفنان من حدث أو مشهد, لكنه قد لايتأثر به كما يتأثر الفنان.
وإذا كان هذا القول لاغبار عليه, لكن بعض الذين يرون هذا الرأي, يبالغون فيه مبالغات بعيدة, فهم يرون أن الفنان, يكون في حالة من حالات اللاوعي, حين تسيطر عليه الحالة الفنية, وأنه يعطي وينتج من دون شعور أو إدراك, ومع ذلك فإن عمله وأثره يخرج إلينا متقنا متكاملا, فيؤثر في النفوس حين ينتشر بين الناس, وبهذا فإن الفنان ليس له قيمة أو أثر, ذلك أنه يتلقى أوامر غيبية لم يكن بمقدوره إلا أن ينقاد إليها وينفذها, ويعني ذلك أن الفنان يصدر أعمالا وٱثارا قد لا يدرك حقيقة مضمونها…
فهل هذا الرأي صحيح؟..
مما لا شك فيه أن الفنان, قد يكون في حالة غير اعتيادية حين يفاجأه الإلهام, لكنه لن يتمكن من العطاء والإبداع وهو في حالة غير شعورية.
نعم, قد ينعزل, أو ينفرد, وحيدا مع سكون الليل, أو مع موج البحر, إلى غير ذلك من حالات, غير أن الفنان الموهوب, يكون في أعلى درجات الوعي في ساعة عطائه وإبداعه, وإلا فإنه لايصح لنا محاسبته حين يخرج عن قواعد الفن المعروفة والخاصة بكل نوع من أنواع الفنون.
ومن المعلوم, أن اللحن العميق المؤثر, والقصيدة المتقنة – على سبيل المثل لا الحصر – لا يصدر اللحن أو القصيدة عن إنسان فقد عقله أو وعيه.
يقول أحد الفنانين: «إنني حين تسيطر علي الفكرة, فإنني انتقل إلى حالة تشبه حالة المرأة عند الولادة», ويضيف: «ولا أرتاح من مخاض الفكرة حتى تلد عملا ماً».
هذه الحالة العامة التي وصف بها الشاعر نفسه, هي بالتأكيد حالة غير عادية, إلا أن الشاعر والفنان لايستطيع أن يبدي للناس إلهامه كما جاءه, إلا بعد أن يراجعه مرة تلو المرة, ليتأكد من سلامة قواعد فنه في ماقدمه للناس.
لقد كان زهير بن أبي سلمى يراجع قصيدته عاما كاملا قبل أن يلقيها على الناس حتى عرف بصاحب الحوليات, ولا يحتاج كل فنان هذه المدة التي احتاجها شاعرنا الجاهلي, لكن الفنان الذي يحترم نفسه وجمهوره, لابد له وأن ينظر في نتاجه وعطائه, ليتأكد من صحته وسلامته واتقانه, وهذا مايدعوه في كثير من الأحيان إلى كتابة عمله أكثر من مرة إذا كان يعتمد على الكلمة, وإلى التغيير والتبديل في عمله إذا كان نتاجه تصويرا أو رسما أو نحتا.
وإذا أردنا الحديث عن الأثر الفني لأي عمل وأثره في النفس البشرية, فإن المجال سيتسع بنا إلى أفق لا محدود, فأصالة الإبداع والأعمال الفنية وتأثيراتها في النفس تعتمد على اعتبارات شتى, قد تتضافر كلها في العمل فيبدو حالة من حالات السحر, ومن هذه الاعتبارات ماهو ظاهر بين معروف, كمراعاة القواعد ومطابقتها مع المعطى والعمل الفني, يضاف إليها الصدق الفني.
وأيا كان الأمر, فإن تأثير العمل الفني في النفس يعتمد في جملة الاعتبارات التي أشرنا إليها من جهة, وعلى الموهبة, موهبة الفنان المبدع نفسه من جهة أخرى, وهذا اعتبار أساس لا يمكن لأي ناقد قياسه, إنه اعتبار وعنصر اعتمادي مجهول, وهو يرتبط بالمبدع نفسه, هذا المبدع الذي قد يكون قديما أو حديثا أو حداثويا, لافرق, لأن الأديب والمبدع والفنان على وجه العموم, هو ذلك الموهوب الذي يتمكن منك, فيملأ نفسك إعجابا وإكبارا به, بعد أن ملأك بالأثر والتعبير عما يجول في ضميرك ووجدانك, ومايعتلج فيهما من أفكار ومشاعر.
عبدالمعين محمد زيتون
التاريخ: الجمعة 10-1-2020
الرقم: 17165