ثورة أون لاين – علي الأحمد:
طرحت النهضة الموسيقية العربية بدايات القرن الماضي مجموعة من المسائل والإشكالات التي لاتزال توابعها تؤثر بشكل كبير في خيارات وبدائل الموسيقي العربي المعاصر، هذه المسائل تبدو إلى وقتنا الحاضر معلقة بلا حلول ومعالجات، خاصة في مفهوم الاحتكاك مع الغرب، بما نتج عنه من صراعات فكرية وأيديولوجية لايزال صداها يتردد في كافة تفاصيل الحياة الموسيقية المعاصرة.
هذه الإشكالات تعمقت بشكل كبير في الفترة الزمنية التي قارب بها القرن العشرون على الأفول والغياب، حيث بدأت مسارات التغريب والتهجين غير المعقلن، تطل برأسها في نتاجات الموسيقى العربية، والتي نحى أكثرها كما هو معلوم، نحو الاقتداء بالغرب شكلاً ومضموناً، لتجد موسيقانا العربية نفسها وسط هذا الصراع الثقافي الذي لايزال مستمراً إلى يومنا هذا، غريبة الوجه واللسان، ترطن بلغة غريبة، نبتت كالفطر السام على ضفاف وتربة هذا الفن، وباتت تشكل سموماً وأفخاخاً لمن يقترب منها.
صحيح أن هذه الإشكالات كانت قد بحثتها أروقة المؤتمر التأسيسي الأول للموسيقى العربية الذي عقد في القاهرة، عام ١٩٣٢ بفضل وجود خبرات معرفية وأكاديمية مهمة من موسيقات الغرب والشرق، تداعوا إلى وضع توصيات ومسارات فكرية ومعرفية تؤطر العلاقة مع الغرب المختلف ضمن أبعادها الفكرية والثقافية، من دون التأثير على خصوصية الهوية الموسيقية العربية بما تمتلك من عناصر إبداعية مائزة ومتفردة الخصوصية.
لكن على أهمية هذا المؤتمر وما تلاه من مؤتمرات لم يستطع خبراء وحكماء هذا الفن من وضع استراتيجية مستقبلية فاعلة ومثمرة، تقود الى هذه النهضة المنشودة، عبر هذه المسارات والارتحال العلمي نحو الغرب وعلومه الموسيقية المتقدمة.
لقد تبدى الحل هنا عبر ثلاثة اتجاهات، الأول اعتبر أن العودة إلى الأصول والقواعد المكرسة حلاً ناجعاً ومقبولاً بغية الحفاظ على عناصر ومفردات الهوية الموسيقية العربية من الذوبان والتماهي مع الآخر، وفريق ثانٍ اعتبر أن التغريب والتماهي مع الغرب بسلبياته وإيجابياته هو الحل المنشود لهذه المعضلة الفكرية، أو ما يسمى مأزق العلاقة مع الغرب عموماً، وبرز اتجاه ثالث يمكن أن يطلق عليه الاتجاه التوفيقي، قام به مجموعة من الأعلام الرواد الذين ارتؤوا الأخذ بأسباب الحداثة انطلاقاً مما هو ناجز ومكرس في هذه الهوية الوطنية، وهو حل يبدو معقولاً ومنطقياً إلى حد كبير، خاصة إذا ما علمنا كيف بدأت تصعد موجات التغريب والتقليد واستنساخ الآخر أواخر القرن الماضي، في سبيل اللحاق بالتطورات الكبيرة والتحولات التي قامت في موسيقات الغرب والشرق على حد سواء بما أثر على مكانة وحضور هذا الفن في الحياة المعاصرة.
وما بين تيار المحافظة على التراث والتماهي مع الغرب والتوفيق ما بينهما، دفعت موسيقانا العربية أثماناً باهظة من عناصرها الإبداعية، كما بطبيعة الحال من دورها الرسالي والإنساني العظيم الذي كان سمة غالبة في كثير من نتاجات هذه النهضة كما سنرى لاحقاً.
المهم في الأمر أن هذه الصراعات الفكرية المؤدلجة لم تؤد في كثير من الأحيان إلا إلى مزيد من الانقسام والتشرذم على مستويات الكتابة والتأليف والممارسة، وحدهم أولئك الفرسان الرواد ممن حازوا العلم والمعرفة وروح الانتماء لهذه الهوية الأصيلة، اجترحوا مسارات هذه النهضة عبر فكرهم الخلاق، فكتبوا موسيقى عربية بديلة، ابنة زمنها الحداثي، لكنها ابنة هويتها وتجلياتها الذوقية والجمالية، وكما هو معلوم فقد ابتدأ مسار ومسير هذه النهضة الحداثية بعد مخاض فكري طويل، عبر واحد من عظماء الموسيقى العربية الذين أسسوا لحركة الحداثة والتجديد ألا وهو الشيخ المعمم سيد درويش أبو الحداثة، الذي تمرد بثورة موسيقية خاطفة على كل ما يعيق هذا المسار ويؤبد الجمود والخمول سليل الحقبة العثمانية العتيدة، ساعده في هذه المغامرة الحداثية المهمة اطلاعه وتعرفه عن كثب على الأعمال الغربية الكلاسيكية التي كانت تقدم في القاهرة والإسكندرية وغيرها من مدن، نرى تجليات هذه المغامرة في مسرحه الغنائي العظيم وفي ألحانه المشرقة التي تبعث على الحياة والعطاء واستشراف المستقبل، انطلاقاً من هويته الموسيقية الوطنية التي أثراها بالعلوم الغربية والآلات وطرق الكتابة التي أصبحت أكثر تعبيراً وجمالاً بالرغم من أصالتها المعهودة.
وواصل المسير كما أسلفنا الرعيل الأول ممن حاز الثقافة والعلم، حيث قدمت في تلك الفترة مجموعة مهمة من الأعمال الموسيقية الساحرة وفي كل الأقطار العربية، أعمال أبو بكر خيرت، وجمال عبد الرحيم، وفتحي جرانه، وحسن أرشيد، وحليم الضبع، وعطية شرارة، ممن كتب موسيقى عربية بالصيغ التأليفية الغربية الكلاسيكية، وفي سورية كان هناك نوري رحيباني ونوري اسكندر وصلحي الوادي وغيرهم، أما في لبنان فكان هناك عبد الغني شعبان وتوفيق سكر وتوفيق الباشا والرحابنة ووليد غلمية وغيرهم ممن تابع المسار الحداثي انطلاقاً من الموروث الموسيقي العربي الناجز، الذي يستلهمه اليوم فرسان اللغة الموسيقية الجديدة من جيل الشباب الواعي المثقف الذي يحمل مشروعاً مغايراً لهذه النهضة، لكنه يتواصل معها روحياً ووجدانياً وفي هذا ما يثلج الصدور والعقول، علّ هذا المشروع يحدث نوعاً من التوازن مع المشروع التجاري الهابط السائد ويكون فاتحة خير نحو نهضة موسيقية وإبداعية تحتفي بالجمال وتقرأ بعمق وصدق في قضايا الوطن والإنسان الجوهرية، التي غيبتها الموجة التجارية الاستهلاكية العابرة سليلة منظومة العولمة وما بعدها.