ثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
قد يكون من المبكر جداً وربما من المبالغ فيه كثيراً الحديث عن قرب انهيار الولايات المتحدة الأميركية كأنموذج حكم أو كقوة إمبراطورية عظمى تتحكم بمصير العالم، أسوة بنماذج إمبراطورية سبق لها أن هيمنت ثم تراجع نفوذها وتلاشت وباتت جزءاً من التاريخ، إلا أن مؤشرات التناقض والصراع بين الحزبين الكبيرين وبين المكونات المجتمعية للبلاد تشي بوجود أزمة أميركية حقيقية عززتها الجريمة العنصرية التي حدثت في مينيابوليس مؤخراً ضد مواطن أميركي من أصول افريقية وأدت إلى احتجاجات وأعمال عنف غير مسبوقة هددت الاستقرار الذي تنعم به أميركا على حساب الفوضى التي تنشرها في أنحاء متفرقة من العالم.
عند الحديث عن نقاط القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة فإن أول ما يقفز إلى الواجهة هو متانة النظام السياسي وقوة الاقتصاد وكذلك القوة العسكرية، بينما هناك نقاط أخرى لا يتم الحديث عنها غالباً كحالة المجتمع وأوضاع الحريات والأقليات وما يتصل بها من شؤون وقضايا مختلفة.
منذ مجيء دونالد ترامب إلى الحكم قبل أربع سنوات بدأ العالم يلاحظ بوادر أزمة سياسية في هذه البلاد تكشفت ملامحها عبر صراعات متعددة منها صراع داخل البيت الأبيض أدى لاستقالة العديد من الموظفين، وصراع بين البيت الأبيض والكونغرس عبر الاعتراض المستمر على قرارات الرئيس والتشكيك بانتخابه وأهليته للحكم، وصراع بين البيت الأبيض والبنتاغون أدى لاستقالة مسؤولين كبار بينهم وزير الدفاع الأقرب إلى ترامب، وصراع بين الرئيس ووسائل الإعلام أدى إلى ما يشبه القطيعة بينهما، كل هذه الصراعات أدت إلى قيام ترامب باتخاذ العديد من القرارات المزاجية والمتسرعة والارتجالية، قرارات تم تجميد بعضها وقرارات ألغيت وقرارات يجري حولها جدل مؤسساتي كبير بسبب التداعيات السلبية المحتملة لها، أي أن النظام السياسي الأميركي الحالي في مأزق مرشح للتفاقم في ظل رجحان كفة معارضي ترامب في داخل حزبه وكذلك في الحزب الديمقراطي وفي عدد من مؤسسات صنع القرار بواشنطن.
معظم القرارات التي استطاع ترامب تمريرها أدخلت البلاد في خصومة حتى مع بعض حلفاء أميركا وخاصة تلك التي تتعلق برفع الرسوم الجمركية على بعض المواد كالصلب والألمنيوم، كما أدى انسحاب أميركا من بعض الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المهمة ورفع شعار “أميركا أولاً” ومن المنظمات الدولية كمنظمة الصحة العالمية على خلفية تفشي وباء كورونا وقبل ذلك الانسحاب من اليونسكو انحيازاً للكيان الصهيوني، إلى إحداث أضرار بالغة بعلاقات أميركا مع العالم ولم يكن الاقتصاد الأميركي الذي يشكل الرافعة الرئيسية لقوة أميركا عالمياً بعيداً عن التأثيرات التي حدثت عالمياً.
وللعلم فقط فإن الاقتصاد الأميركي في الأساس يعاني من أزمات متتالية ومتراكمة أساسها ازدياد الفجوة بين الفقراء والأغنياء حيث تتساهل السياسات الضريبية مع الأغنياء على حساب الفقراء، كما أنه لم يعد من المسموح للعمال تشكيل النقابات العمالية التي تطالب بالأجور العادلة وتحسين ظروف العمل كما أن أغلب العاملين يعانون أزمات نتيجة انخفاض الحد الأدنى للأجور.
وفي المجال العسكري يعاني الجيش الأميركي باستمرار من أزمات مالية ومشكلات بالتسليح وخاصة بعد خوضه الكثير من الحروب بذريعة محاربة الإرهاب والتدخل في العديد من المناطق، وهذا ما يدفعه لاستهلاك موارد ضخمة من الميزانية الوطنية تقدر بتريليونات الدولارات في بعض الأحيان، وكل ذلك على حساب الاستخدامات المفيدة للمجتمع الأميركي، وإنعاشاً للذاكرة فقد أدى إعصار كاترينا الذي ضرب عدد من الولايات الأميركية الفقيرة عام 2005 إلى أحدث أضرار هائلة في البلاد وقفت إدارة بوش عاجزة عن معالجتها بسبب الإنفاق العسكري الهائل على حربي العراق وأفغانستان آنذاك، وخلال الأشهر الماضية تعرض الاقتصاد الأميركي إلى هزة عنيفة بسبب تفشي وباء كورونا بشكل كبير جداً في البلاد حيث اضطرت السلطات إلى تجميد النشاط الاقتصادي عدة أشهر كان من نتيجتها هبوط غير مسبوق في سعر النفط الخام الأميركي وازدياد حالة الفقر في البلاد، واليوم تتواصل تداعيات الأزمة الجديدة على خلفية الجريمة العنصرية حيث الاحتجاجات مستمرة وقد تطيح برأس ترامب أو تضطره إلى تقديم تنازلات مؤلمة تتناسب مع حجم التطورات التي جرت.
وبحسب العديد من الخبراء فإن الجيش الأميركي الذي يعد الذراع الطويلة للولايات المتحدة في العدوان والهيمنة هو أحد أكبر مشكلات أميركا في العالم، حيث يشكل تدخله الدائم في العديد من مناطق العالم بمبررات زائفة كمحاربة الإرهاب ونشر الحرية والديمقراطية أكبر محرض للعداء ضد أميركا وسياساتها الاستعمارية، وإذا ما انجرّت الولايات المتحدة إلى خصومة وصراعات أكبر مع كل من الصين أو روسيا فمن غير المتوقع أن تقبل الدولتان العظميان بتوازن القوى الحالي المائل لصالح أميركا.
وبخصوص الإعلام الذي يشكل أحد مخالب أميركا للتضليل و التحريض ونشر الشائعات حول العالم فمن الواضح أن الولايات المتحدة الأميركية تنتهك حرية الفكر والتعبير الخاصة بوسائل الإعلام من خلال استخدام صلاحياتها لتقديم الدعاية المستمرة لصالحها حسب مصالح القلة التي تتحكم بالقرار الأميركي، في الوقت الذي تواجه فيه وسائل الإعلام “الحرة” هجوماً مستمراً عليها، وكثيراً ما يجبر البيت الأبيض وسائل الإعلام الأميركية على بث دعاية خبيثة لتبرير الانتهاكات التي ترتكبها الإدارة الأميركية بحق الدول والشعوب الأخرى، ولا تخفى على أحد حالة العداء بين ترامب وبعض وسائل الإعلام الأميركية هذه الأيام حيث تمنع العديد منها من تغطية فعاليات في البيت الأبيض في حين يهاجمها ترامب باستمرار ويوجه لها شتائم وانتقادات لاذعة وهو ما دفعها في الكثير من الأحيان لنشر فضائح ترامب وفضائح السياسة الخرقاء التي ينتهجها الأمر الذي أوضح للعالم صورة أميركا الحقيقية وأسقط عنها الكثير من الأقنعة التي ترتديها للتضليل.
أما على الصعيد الاجتماعي فقد كشف مركز جلوبال ريسرش البحثي مجموعة من الحقائق تثبت اقتراب انهيار الولايات المتحدة تضمنت الانهيار الاجتماعي الذي يعانيه المجتمع حتى أن الدولة لم تعد قادرة على حماية مواطنيها بسبب انتشار السلاح بشكل كبير ووجود حالات تطرف واتساع رقعة الجريمة، كما أن الولايات المتحدة باتت عاجزة عن توفير الوظائف والأجور والحياة المعيشية المناسبة لعدد كبير من سكانها خاصة الشباب والمهاجرين وأولئك الذين ينتمون لأقليات عرقية مثل السود.
أما أخطر المشكلات التي تعاني منها أميركا فهي سياسة التمييز العنصري ضد السود حيث يمتلئ المجتمع الأميركي بالعنصرية على أساس اللون والجنسية والتي يتم استخدامها ضد الأقليات وخاصة الأقلية السوداء حيث ساهمت جريمة مينيابوليس العنصرية على فضح الوجه العنصري البشع داخل أجهزة الدولة الأميركية وخاصة الشرطة، وإذا ما استمرت الاحتجاجات الحالية وقوبلت بعنف أشد من قبل السلطات فلربما يدق المسمار الأخير في نعش هذه النظام الامبريالي العدواني، وتأكيداً على ذلك قالت صحيفة الواشنطن بوست في تقرير لها أنه مع استمرار الاحتجاجات والظلم العنصري المستشري في المجتمع الأميركي فإن خيارات إدارة ترامب المقلقة بشأن الجيش تشكل أكبر تهديد لموقف المؤسسة العسكرية بين الجمهور منذ حرب فيتنام مشيرة إلى أنه “لا توجد حرب بين الجنود والمواطنين الأميركيين ويجب على إدارة ترامب التوقف عن محاولة إشعال واحدة”، ولفتت الصحيفة إلى “عدة محاولات سابقة قام بها ترامب لاستغلال الجيش لأغراض سياسية محضة خاصة” منها نشره لآلاف من العسكريين على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك للتصدي لمجموعة من المهاجرين الذين لم يشكلوا أي تهديد للأمن القومي”. وإذا ما استمرت الأوضاع على الشكل الحالي فسيتعمق الشرخ داخل المجتمع الأميركي وقد نشهد حرباً أهلية، وفي العموم من الصعب أن تستمر أميركا بهذا الشكل العنصري دون أن تدفع أثماناً باهظة لهذه السياسة، ولاسيما بعد أن اهتزت صورتها عالمياً وحازت جريمة مينيابوليس على موجة تعاطف عالمية كبيرة.