الثورة أون لاين – هفاف ميهوب:
يُشعرني واقعنا الغارق بكلِّ ما عزله عن وعيه ورؤاه وحكمته، وكأننا نعيش في “كهف أفلاطون” ومع ظلال عتمته.. الكهف الذي يحتوي على مجموعة سجناء كُبلت أرجلهم ورقابهم، وأديرت وجوههم إلى جداره، بحيث لا يرون الضوء المنبعث من نيران المسرح المواجه لمدخله.
هذا ما أشعره، في عالمٍ ما أشبه حراس عقولنا فيه، بحراس الكهف الذين كانوا يمرِّرون تماثيل حيوانات وأشياء أخرى أمام النار، فلا يرى السجناء إلا الظلال التي كانت تشكّل لديهم قناعة أريد منها، جعلهم يتبنّون الوهم عماءً لا بصيرة تسعى للتيقن من حقيقة ما يعكسه.
أوليس هؤلاء الحراس هم ذاتهم من قيدوا حياتنا وعقولنا ووعينا وتفكيرنا وطموحنا؟.. أوليسوا من نصّبوا أنفسهم أوصياء على مجتمعاتنا، ومن لوّحوا بأفكارهم سعياً لاستلابنا وإهلاكنا؟..
نعم، هم ذاتهم الحراس الذين عانى الفيلسوف الإغريقي “أفلاطون” من ظلالهم التي سعت لحجبِ كل ما يُفشل قيام مدينته، والذين يسعون اليوم لاستعراض أفكارهم، يمرّرونها عبر ثقافة فخّخوا بها العقول، ومنعوها من الاستدارة حيث النور وبوابات حكمته.
هي حقيقة، لا بدَّ لكلِّ من قرأ أو سمع قصة “كهف أفلاطون” من التماسها والسؤال بعدها: متى سيتمكن المقيدون في كهف رواسبهم أو تبعيتهم أو قناعتهم، من التحرر والانطلاق بعيداً عن ظلامية معتقداتهم؟!! الأهم، متى ستهبّ العقول المستنيرة والواعية، لإضاءة هذا العالم الذي عزلها ونبذها، وأشاح عن نور معرفتها الحكيمة والرائية؟!!.
أعتقد بأن المقيدين لن ينطلقوا بعيداً عن ظلال جدران وأوهام حراس الفكر الرجيم. أما بالنسبة للمضيئين، فنتجرأ على سؤالهم رغم عزلتهم وإشاحتهم أو يأسهم من عالمٍ يحكمه أعداءِ النور الرحيم.
نتجرأ على سؤالهم: أليس بينكم من ينطلق ليواجه أعداء فكره وثقافته ومعرفته، بل وعنجهية أناه؟ّ!. نسأل، فلا نجد من يجيب إلا “أفلاطون” الذي تساءل قبلنا: “هل هذا السجين قادر على أن يَعقل ما يراه؟”.
هو سؤال أطلقه لتجيب فلسفته، بأن مايراه هذا السجين لدى هروبه باتجاه إشراقات، تستنير بصيرته بإشعاعاتها الحقيقية، سيجعله يخاف ويعود إلى الكهف، لأن أحداً من السجناء لن يصدقه، وبالتالي سيكون بينهم أعمى، ومهدّداً بسبب تخليه عما تبنّوه على مدى سنوات من الرؤى الوهمية.
إنه واقعنا.. لا أحد يسعى للتحرر من عزلته وعتمته، ومن عديد الظلال التي استباحت حياته وعقله ومعرفته. لا أحد يسعى للتحرر من قيود أناه أو حتى أعداء رؤاه، ومن يفكر يكون مصيره كمصير الهارب من “كهف أفلاطون”.. ذاك الذي خرج عن المألوف، فرأى السجناء الذين كان معهم، بأنه يستحق القتل لأنه خائن أو مجنون.
باختصار.. هي الفلسفة التي تقود إلى الحكمة التي نحتاجها. فلسفة الحياة في صراعها مع العقل وصولاً إلى يقظته، وفلسفة العقل اليقظ والراقي بعيداً عن كلِّ فكر يتماهى في جهله وإرثه ودونيته.
الفلسفة التي تعلمنا، بأن هناك من يطلقنا باتجاه الكمال، وهناك من يحاول أسرنا وطمس هويتنا وثقافتنا وتاريخنا في كهوف الظلام والظلال.
إذاً، فليغامر الحكيم فينا، ولينطلق متحرراً من كلّ ما يقيّد فكره وذاته وواقعه وحياته.. حتماً، نحتاج إلى الكثير من هكذا مغامرة، ولا سيما في هذا الزمن الذي بات حراس “كهف أفلاطون” فيه، لا يكتفون باقتياد العقول إلى ظلام الكهوف فقط، وإنما أيضاً إلى ظلام المقبرة.