من المعروف أن للدراما التلفزيونية تأثيرها على ثقافة المجتمع، والمسلسل التلفزيوني يحظى عادة بنسب عالية من المشاهدة ولاسيما إذا ما توافق وذائقة المشاهد.. أما ما يلقي به من أثر فهو رهن بتفاعل جمهوره معه، وهو يشغل أغلب ساعات البث التلفزيوني العربي عموماً.
والدراما التلفزيونية السورية التي نهضت من جديد، واتصفت بغزارة الإنتاج، وتنوعه فقد طرأ عليها تطور لافت خلال عقد من الزمن، حققت بفضله نقلة نوعية وصلت بها حد المنافسة مع الدراما العربية، وتنوعت بين الفانتازيا، والواقعية، والكوميديا.. وهي بالتالي نجحت بأن تسلط الأضواء ساطعةً على نخبة من الممثلين المتميزين في الأداء، وعلى المخرجين الذين أجادوا فن الإخراج، وعلى كتّاب سيناريو متمرسين.
ولو كان الإنتاج الدرامي لا يتساوى جميعه في مدى إتقانه وجودته إلا أن أغلبه حظي بالنجاح، والاستحسان.. والأمر لا يقتصر على سيناريست جيد، وممثل بارع، ومخرج يتقن فنه، بل إن الأمر ينسحب أيضاً على اختيار موضوعات بعينها في مواقيت تتوافق معها.
وقد انشغلت الدراما المحلية بكثير من المسلسلات التي تدور في فضاء البيئة الشامية، وما تميزت به من روعة العمارة، فنجحت في استحضارها، واستحضار أجوائها سواء من خلال الديكور، أو اختيار الموقع، وهو أزقة دمشق القديمة، وحاراتها التي تشع بالنظافة، وتنبض بالألفة بين قاطنيها، وبيوتها ذات الفناء الداخلي العامر بالزروع، والأشجار المثمرة، وكأنه قطعة من الجنة هبطت في بيت دمشقي يتسم بالعراقة، والأصالة.
أما العلاقات الإنسانية المجتمعية التي رصدتها مسلسلات البيئة الشامية في الفترة ما بين بداية القرن الماضي ومنتصفه، أي ما قبل الانتداب الفرنسي، وما بعده وفترة الاستقلال الوطني فأغلبها إن لم تكن جميعها تدور في فلك البيئات الشعبية التي نالت حظاً متواضعاً من العلم والثقافة، أو أنها لم تنله.. ما جعل التناقض صارخاً ما بين المعمار الدمشقي المتطور الذي يشي بالحضارة، والتطور، والثراء، والفئات الاجتماعية البسيطة التي تقطنه، وهي لم تزل بحاجة إلى محو أميتها الأبجدية، قبل خروجها من سيطرة فكرة الخرافة، والسحر وقدراته الخارقة.. بينما آفاق البيئة الشامية فكرياً، وثقافياً تتسع لأوسع من هذا الإطار بكثير.
فالبيئة المكانية تعكس أنماط التفكير، وثقافة أهل المكان.. وما تنم عنه البيئة الشامية، أو الدمشقية المتغلغلة داخل بيوتها بطرازها المعماري الفريد، وبأثاثها الذي يدل على تفوق صناعته، لا يتناسب ومحور الأحداث التي لا تدور إلا حول الفتن، والمؤامرات الاجتماعية، والنزاعات ضيقة الأفق، والتي غالباً ما تكون المرأة الجاهلة، غير المتعلمة هي محورها لتبدو بالتالي معها صورة المرأة في تلك الفترة هزيلة، إذ هي عديمة الثقافة، ومواطن مقهور من الدرجة الثانية أمام الهيمنة الذكورية، وهي لا تملك سوى الاذعان لسلطة الرجل. قصص مركبة على النسيج الدمشقي وليست منه، لأنها بعيدة عن خصوصيته، ويمكن لها أن تجري في أي مكان آخر، لكن اختيرت الحارة الدمشقية لتكون فضاءً لها.
في حين أن جامعة دمشق التي ترجع نواة تأسيسها إلى بداية القرن الماضي لم تنشأ من فراغ دون وجود بيئة مهيئة لها، وقد كانت الجامعة الوطنية الأولى في الوطن العربي التي تخرج منها رجالات سورية، وأعلامها، وسيداتها المتعلمات، والمثقفات الرائدات في مجالات الطب، والهندسة، والمحاماة، والصحافة، والأدب.. فإذا كان جيل الثلاثينيات، والعشرينيات، وما قبل ذلك من القرن الماضي قد انتسبوا إلى الجامعة ذكوراً، وإناثاً فإن ما صاغه خيال الكاتب عن تلك الفترة، وحصراً حول طبقات اجتماعية واسعة لا نصيب لها من العلم، والثقافة فإنه لا يعكس حقيقة المكان، وإنشاء جامعة رائدة في المنطقة العربية، وبزوغ أسماء لامعة من الرواد، والرائدات في كل المجالات.
يمكن اعتبار هذه المسلسلات عن تلك الفترة هي نوع من الفانتازيا اختير لها أن تدور أحداثها في دمشق القديمة كموقع يجذب إليه لتميّز طرازه المعماري، وأثاث بيوته الفاخر من الخشب المطعّم بالصدف، وخيوط الفضة التي تطوعها أيدٍ ماهرة بلمسات فنية نادرة.
فإذا كانت صناعة الدراما المحلية قد استطاعت أن تحقق نجاحاً كبيراً تشهد له الدراما العربية فهي قادرة لا شك على أن ترصد فترات مضيئة من تاريخ هذه المدينة العريقة الأكثر قِدماً من خلال أعلامها، وأن تلتفت إلى موضوعات أكثر عمقاً، وتعبيراً عن فترة أنجبت (نزار قباني)، و(ثريا الحافظ)، و(خليل مردم بك)، و(نازك العابد)، و(شكري فيصل)، و(ألفت الأدلبي)، و(قمر كيلاني)، (كوليت خوري)، وغيرهم كثر.. فصورة دمشق بالتأكيد ليست حكراً على بيئات اجتماعية دون غيرها.
والدراما الناجحة حواراً، وتمثيلاً، وإخراجاً إذ ما كرّست لنماذج إنسانية ليست هي القدوة التي تصلح للمجتمع فإنها لا تعفى من رصد الملاحظات، والوقوف عند بعض الآراء، وهي ليست من سبيل النقد السلبي بقدر ما هي وجهات نظر قابلة للنقاش والإقناع، أكثر من التبرير، والدفاع.
(إضاءات) ـ لينـــــا كيــــــلاني