إذا كانت ما تسمى (بالميتافيرس)، وزميلتها (إن إف تي) قد ابتكرتا لتكونا في فضاءٍ افتراضي بكل ما يتبعهما مما هو من المعقول، واللامعقول.. فإن عالم التخيّل بات يحل بقوة محل ذلك الواقعي بكل زخمه، والحدود الفاصلة بينهما آخذة بالذوبان شيئاً فشيئاً كلما تطورت الرقمية، واتسعت استخداماتها، وتنوعت آفاقها.
وكتّاب الخيال العلمي لم يكونوا يوماً ببعيدين عن هذا، فكم من الأعمال الأدبية التي تحولت إلى السينما رصدت هذا المستقبل الجديد بكل تفاصيله، ومتغيراته، حتى خيِّل إلينا في عقود سابقة أن هذا الذي كنا نراه على الشاشة ربما هو من نسج الخيال فقط، وإذا كان سيأتي إلينا فهو لن يكون إلا على أبعد مدى زمني.
لكن هذا الواقع الافتراضي واسمه يعبِّر عنه، ويختصره على أنه (واقع) بما تحمله هذه الكلمة من معنى، و(افتراضي) في الوقت ذاته بما يؤكد أنه ليس بحقيقة ملموسة لمس اليد.. أقول إنه لم يعد نسجاً من خيال، أو حلماً سيأتي متأخراً جداً بل إنه قد تحقق فعلاً، وأصبح في متناول اليد لمن يرغب، ولمن يتشوق لأن يختبر حياة جديدة بكل ما ينبض فيها من مشاعر، وأحاسيس.
وإذا كان من رواد العالم الموازي مَنْ أصبحوا يفضلون خوض التجارب في العوالم البديلة عوضاً عن التجارب الواقعية، كما أنهم يفضلون أن يشتروا الأراضي للعيش فيها، وكذلك الممتلكات، وغيرها من الأشياء، على المنصات الإلكترونية أكثر مما يرغبون بها على أرض الواقع.. فإن كل ذلك هو مؤشر على تغيّر الأمزجة، ومدى ارتباطها بدرجة الوعي، وتحول الإنسان المعاصر إلى عتبة أعلى من الحلم، أو مما يمكن أن نشبهه بما يطلق عليه اسم (أحلام اليقظة).
كل هذا الجديد يحفز بدوره علماء (الإبستومولوجي)، أي نظرية المعرفة، وفلاسفتها لدراسة هذه الظاهرة الممتدة في تأثيرها على المدى الطويل قبل القصير، ويفتح باباً لانتعاش الفلسفات المعاصرة، وعلوم النفس، والاجتماع.
وبعض العلماء من الفلاسفة يرون أنه في السنوات القليلة المقبلة سيمتزج العالمان الحقيقي والافتراضي البديل ليصبح كل منهما حقيقياً بمقدار الانعماس فيه، والإحساس به.. وما قد يتبع ذلك من تغيّرات في السلوك ضمن المجتمع الافتراضي، تنعكس بدورها في المجتمع الواقعي نتيجة الانغماس في التقنيات الحديثة، وتطبيقاتها الواسعة، ولتبرز بالتالي معضلات تطرح أسئلة تبحث لها عن أجوبة قد تحمل حلولاً سريعة.
إن من محبي الألعاب الإلكترونية مَنْ يصلون إلى حد الهوس بها، ومنها الألعاب الحربية، والقتالية، ومنهم مَنْ فقط يبحثون عن المتعة الزائفة، وتزجية الوقت عبثاً دون الخروج بحصيلة مفيدة، وهؤلاء جميعاً بدورهم يتوجهون نحو تشكيل مجتمع كامل من طبيعة خاصة، واسع، وممتد على مدى القارات قد يصبح له تأثيراً واضحاً ضمن المجتمعات الواقعية إذ يغيّر من طبيعة العلاقات المتبادلة بين الأفراد.
أما كتّاب الخيال العلمي الذين يرسمون خطوطاً للمستقبل وهم ينطلقون في نقطة البداية من المعطيات الحالية للعلم، والتطور التقني، وأحدث ما تم التوصل إليه فإنهم سوف يغِذون بعيداً في توقعاتهم المستقبلية هذه ارتكازاً على ما هو بين أيديهم من تطورات علمية، وحقائق.. حتى أن أحد الفلاسفة المعاصرين (ديفيد تشالمرز) وصفهم بأنهم يطرحون أفكاراً عميقة لا تقلّ أهمية عن الأفكار التي يقدّمها الفلاسفة.. وهذا مما يحفز بدوره لأفكار أكثر عمقاً تتحقق معها قفزة بشرية أخرى ربما تكون هائلة، ونكون حينئذ قد اعتدنا على (الروبوتات) الحيوية وهي تتجول بيننا.
وعالم الافتراض البديل هذا مع تكرار، أو استمرار ممارسة الدخول إليه يصبح حقيقياً أكثر فأكثر مع مرور الوقت، لنعيش بالتالي ضمن دول افتراضية بأناسها، ومجتمعاتها، وتحت سطوة الشركات الكبرى التي تمتلك أدوات الذكاء الصناعي، ومنصات الواقع الافتراضي.. فأي مستقبل ينتظر أبناءه لينمّي قدراتهم، أو ليغيبهم وراء سحابات من الأحلام الوردية؟.. وحتى يأتي هذا المستقبل سنظل واقفين على عتبة الانتظار لنرى ما القادم إلينا.
اضاءات ـ لينـــــا كيـــــــــلاني ـ