طفل صغير يسقط في بئر عميقة.. حدث لاشك أنه ليس استثنائياً، وليس الفريد من نوعه، ويمكن أن يكون قد تكرر كثيراً، بل إنه يتكرر في أماكن مختلفة، وربما لا يعلم عنه أحد، أو يسمع.. فمثل هذه الحوادث تقع للصغار أينما كانوا، وقد تقع للكبار أيضاً.. لكن هذا الطفل أصبحت قصته على كل لسان بعد أن خرجت عن نطاقها المحلي الضيق إلى الأوسع فالأوسع حتى أصبحت قصة عالمية يتابعها ملايين الناس في كل أنحاء العالم، وبعد أن دارت كاميرات الفضائيات في استنفار لمتابعة تغطية مستمرة مدعومة بعدد من المراسلين، ودون انقطاع في بث مباشر على مدى الأيام الخمسة للسقوط الحر حتى قعر البئر.
وبينما كانت تُبذل الجهود الجبارة في تلك المنطقة الجبلية ذات التضاريس الوعرة من حفر، وردم للوصول إلى ممر الخلاص للطفل العالق تحت الأرض، كانت سيارات الإسعاف المزودة بالتجهيزات الطبية المتقدمة تتوجه إلى مكان الحادث، ويتبعها جموع الناس الذين توافدوا من الأماكن القريبة، والبعيدة للمتابعة عن قرب، وتتعالى أصواتهم بالحماسة، والدعاء لإنقاذ الروح البريئة التي حوصرت في مكان ضيق، مظلم، مدفون على عمق كبير.. وليتزامن الأمر الذي انطلقت شرارته، وبدأت دائرته تتسع شيئاً فشيئاً مع تدفق وكالات الأنباء لتنقل الخبر، ومعها القنوات الفضائية في تقرير، وتحليل، وبرامج إخبارية، ومؤتمرات صحفية، واستنفار لقوى أمنية، واشتعال لمواقع التواصل الاجتماعي بتناقل الخبر إلى جانب الإشاعات، والرسوم المعبرة التي تحكي القصة، والغايات من ذلك على المواقع تتباين بين المشاعر النبيلة المتعاطفة مع الحدث، والداعمة نحو الخلاص، وبين الرغبة بالترويج للصفحات باصطياد أكبر عدد من علامات الإعجاب بالمنشور، وكأن الأمر لم يعد مأساة إنسانية بل أشبه ما يكون بفيلم سينمائي مثير للمتابعة، والاهتمام.. حتى أصبح الحدث محط أنظار العالم الذي تابعه لحظة بلحظة لغاية الفصل الأخير منه،
إلا أن الأكثر إثارة في القصة الحزينة لهذا الطفل الذي لم ينج رغم كل الجهود التي بذلت في سباق مع الوقت أنها شكلت ظاهرة تستدعي السؤال: هل سنتعامل مرة أخرى بهذه الحماسة مع أحداث مماثلة تقع للصغار، أو للكبار؟ أم أنها حادثة شاءت لها الظروف أن تصبح استثنائية في تفاصيلها، وتوالي فصولها، ومتابعتها عن كثب كما لو أن كائناً فضائياً سقط إلى الأرض ليتجمهر الناس حوله؟ وهل مهّد هذا الحدث لأن تتوجه الإنسانية مستقبلاً في اهتمام، وتعاطف عالميين للحفاظ على نسمة الحياة تجاه أحداث مؤسفة تقع لصغار آخرين يسقطون في آبار أعمق غير منظورة من الفقر، أو العنف، أو التنمر الذي يدفع بهم إلى هاوية الانتحار، أو العمالة المبكرة التي تسلبهم طفولتهم، أو الحرمان من التعليم وهو من أول حقوقهم، وكذلك الحرمان من الرعاية الصحية، ومن غيرها من حقوقهم الأساسية التي تجنبهم الأذى الجسدي، والنفسي على السواء، أو أن يصبحوا في الشوارع حيث لا أهل، ولا أسرة؟.
لاشك أن فقدان روح بريئة ولو كانت واحدة هي ليست بالأمر الذي يستهان به، أو الذي يمكن تجاوزه، بل إنه يستحق الحزن لأجله، كما البحث عن أسبابه، والحرص على عدم تكراره. ولكن.. لو كان العالم يهتم بكل روح بشرية ترهق، أو تزهق، لوقف على الدوام على رجل واحدة وهو يحبس أنفاسه مترقباً لحظة الإنقاذ كما فعل الآن.. أو لعلها صحوة إنسانية شاملة لضمير العالم وصلت جسراً بين الضمائر، ولو جاءت مصادفة، لا نرجو لها أن تصبح عابرة.
(إضاءات) ـ لينـــــــا كيــــــــــــــلاني