المؤرخ والكاتب (نعوم تشومسكي) صاحب كتاب (ماذا يريد العم سام؟) يقول: “إجعل الرداءة تعمّ حتى تصبح عاديّة، ثمّ مستساغة، ثم مطلوبة”.. أما رداءة المعلومة، أو الخبر الذي تصدره الدعاية الزائفة التي تحرص على تحقيق غاياتها في التأثير على الآخر فهو أساس في مهمتها.. والرداءة هنا لا تعني ضعف المعلومة، أو الخبر وإنما الكذب فيهما، أو تحريفهما إلى النقيض، أو الانتقاص منهما بما يغيّر من طبيعتهما.. كمن يجتزئ جانباً من صورة ما ليركّز مَنْ يشاهدها بالتالي على الجزء الظاهر منها فقط فتصل الفكرة الأساس من الصورة المجتزأة بخلاف المعنى الأصلي المقصود منها.
وهذا من أساليب بعض وسائل الإعلام المضللِة في إيصال حقيقة هي غير الحقيقة.. أما التأثير الذي تحدثه فهو يأتي بالتدريج نتيجة تكرار الممارسة.. وعندئذ يكون المتلقي قد هيئ تماماً بعد أن رسخت الأفكار الموجَهة في رأسه، واستقرت في لاوعيه، ليقتنع فيما بعد بما يصل إليه من جانبٍ واحدٍ من حقائق الأشياء لا من مصداقيتها، وسواء تلقاها كمشاهدٍ، أم كمستمعٍ، أم كقارئٍ فالنتيجة واحدة مادامت لعملية التأثير منافذها المختلفة عن طريق الصورة وهي الأقدر على نقل الفكرة وبما يصادر المتلقي، أو عن طريق الصوت وله تأثيره المباشر أيضاً، أو الكلمة المقروءة.. أما التصرف بالخبر فهو إما بتضخيمه، أو الإقلال من شأنه، أو التركيز على جزء فقط من الحدث، بحيث تصل الجهة التي تبثه إلى هدفها منه كبروباغاندا سياسية، أو دينية، أو اقتصادية، الخ… في حين أن من أهم أسس الخبر الصحيح الذي يتم نشره، وإذاعته هو أن يكون موضوعياً، حقيقياً، وأصيلاً، ولا يميل في صياغته لطرف على حساب آخر.
وفكرة (البروباغاندا) أو الدعاية المضللة ليست حديثة المنشأ، ولا تقتصر على منظومة الأخبار بل تتعداها بقوة إلى غيرها، وإلى الدعاية التجارية على وجه الخصوص التي انتعشت بدورها بشكل لافت مع ظهور شبكة المعلومات، ووسائل التواصل، والتسويق الرقمي حتى أصبح تأثيرها أكيداً، وحقيقياً بما تثيره من الاهتمام لدى المتلقي، ولتصبح صناعة رائجة، وهي من قبل لم تكن غائبة عن شاشة التلفزيون، ولا عن المجلات، والصحف، كما الإذاعة، والسينما أيضاً، والرسائل النصية.. وها هو موقع الفيديوهات الأشهر تكاد دقائق المشاهدة من خلاله مهما قصرت مدتها لا تخلو من عدد من الإعلانات حتى بات أمرها كمن يطارد الآخر، أو يحاصره لكي يُقنعه بما لديه، ويُصرُّ على الاستماع إليه، شأنه شأن لافتات الدعايات الكبرى التي أصبحت تصادر الطرقات، والشوارع، ولا مفر من مشاهدتها، أو من نظرة سريعة واعية، أو لاوعية نحوها.
أما (البروباغاندا) الدعائية، أو التجارية الرائجة الآن فهي الأقوى من بين مثيلاتها، إذ لها فعل السحر، بما تملكه من أساليب حديثة تدعمها التقنيات، والدليل على ذلك هي الأموال التي تُنفق عليها، وتُستثمر في مجالها، بينما هي تنوِّع، وتبتكر في طرقها بما يتماشى وأسلوب العصر في خطط التسويق لتُحدث أكبر أثر لها، والشركات الكبرى تعتمد أسساً نفسية مدروسة للوصول إلى زبائنها عن طريق الدعاية.. والإغراء البصري من خلال صورة تختصر المعنى بذكاء كفيل بأن يُقنع، أو على الأقل أن يفتح طريقاً للإقناع بالمنتج المُعلن عنه إذ يعتمد على تحريك المشاعر، وتوليد الرغبات.. قد يكون المنتَج الذي تهتم (البروباغاندا) التجارية بتلميع صورته جيداً بما يخدم الدعاية نفسها، وقد يكون على درجة من الرداءة التي تجعل من دعايته وهماً يُباع لكل مَنْ انخدع فأقبل.
والحال نفسه ينطبق على (البروباغاندا) الإعلامية عندما تروّج لموضوعات بعينها، أو لأشخاص دون غيرهم، أو لإثارة الرأي العام حيال قضية ما قد لا تكون بالضرورة تستحق الترويج لها، وإلقاء الضوء عليها، إلا أن كل ذلك يخدم الأهداف غير المعلنة التي تنطوي عليها فكرة (البروباغاندا) على تنوع المجالات التي بإمكانها أن تدخل إليها بهدف التسويق، أو التضليل لتتلاعب بالعقول، والسياسات معاً.
وفي المحصلة.. لتعم الرداءة على رأي (تشومسكي)، وتصبح مطلباً لجماهيرها، وواسطتها (بروباغاندا) معاصرة أصبحت الأكثر تاثيراً لأنها أتقنت لعبتها ففازت بها.
اضاءات ـ لينــــــــا كيــــــــلاني ـ