الثورة أون لاين-علي الأحمد :
كثيرة هي البحوث والدراسات الموسيقية التي صدرت عن مؤتمرات الموسيقى العربية ومؤتمرات المجمع العربي للموسيقى. لكن على كثرتها وأهميتها تبقى عاجزة وقاصرة، من انتشال هذا الفن من أزماته وإيقاف نزيفه المستمر بسبب عوامل عديدة خارجية وافدة،تمثلت بالأخذ بالعلوم والأدوات الغربية على حساب العناصر الوطنية، وداخلية تتمثل بشكل أساس بالموقف المعرفي من مغزى وجوهر الحداثة والتجديد.
ومابين التأثير الغربي الذي أخذ مع العولمة ومابعدها بُعداً ايديولوجيا، تمظهر بشكل أساس في التبعية والتقليد الأعمى، من دون إدراك أو وعي لخطر هذا الانقياد نحو كل ماهو غربي،حتى ولو كان شاذا وغريبا ، في ولع المغلوب بتقليد الغالب على رأي المفكر العربي “ابن خلدون” ومابين الصراعات “الدونكيشوتية” المريرة مابين تيارات المحافطة على التراث والهوية، وبين مسارات التجديد المعرفي المعقلن، باتت موسيقانا العربية أكثر عرضة لتدمير بنيانها وميراثها الروحي خاصة في ألفيتها الثالثة العتيدة. عصر الهويات العابرة والتكنولوجيا بوسائطها المتعددة التي أثّرت من دون أدنى شك في خيارات وممارسات الموسيقي العربي “سلباً وايجابا” ، لتدفع الكثير من خزينها الابداعي الذي أنجزته الذهنية الموسيقية العربية على مدى قرون فكراً وعلماً وابداعا في كافة الأنماط والتقاليد العظيمة التي حافظت على عناصر الابداع المائزة في الهوية الموسيقية العربية من دون أن يكون ذلك عائقاً في دخول الحداثة والتجديد الى الحياة الموسيقية العربية وتحديدا بدايات ومنتصف القرن الماضي الذي شهد نهضة موسيقية باذخة، بفضل الجيل الأول من فرسان الحداثة يتزعمهم ذلك الشيخ المعمم “سيد درويش ” الحداثي الأول في الموسيقى العربية وأحد المبدعين الكبار الذين نقلوا هذا الفن من مناخاته التطريبية المغلقة الى لغة الشارع والروح الشعبية لتنطق باسم العامل والفلاح والمرأة والموظف والصنايعية ، وتعبر بكل صدق وإخلاص عن قضايا الوطن والإنسان الجوهرية .
وبالعودة الى مؤتمرات الموسيقى العربية العتيدة، نرى كيف أنها كما أسلفنا، بقيت قاصرة وفي حالة من العجز التام، في تقديم الحلول العملية التي من شأنها تطبيق هذه البحوث والدراسات المهمة وتثميرها في الحياة المعاصرة، ،منذ ان تم انعقاد المؤتمر التأسيسي الأول ،في القاهرة من عام 1932 وماتلاه من مؤتمرات بالتوازي مع مؤتمرات المجمع العربي للموسيقى وغيرها من مؤتمرات دولية ومنتديات وفعاليات ،قدمت على مدى سنوات ،خلاصات وافية وتوصيات جد هامة ،لتحرير الموسيقى العربية من جموديتها نحو حداثتها وتجديد بنيتها الداخلية ،بما يسهم في خلق حالات جمالية وذوقية غير مسبوقة بمباركة من العلوم الموسيقية المتقدمة وتجلياتها التعبيرية في الكتابة والتأليف والممارسة ،وهذا ما جعل منتوج ومؤلفات هؤلاء الرواد، باقية وحيّة الى يومنا هذا تعزفها وتؤديها الكثير من الفرق الاوركسترالية في العالم ،تقديرا لجهودهم النبيلة ومباركة لمشروعهم الموسيقي الكبير الذي أطروه على الدوام بمقومات الدور والُبعد الرسالي العظيم ،مسخرين علومهم الموسيقية ومعرفتهم المتقدمة ،في التأسيس لنهضة موسيقية عربية جاءت بمثابة عصر ثانٍ ذهبي للموسيقى العربية ،حيث واكبت هذه النهضة العديد من المؤلفات والبحوث والدراسات القيمة، بما وسّع آفاق الكتابة والتأليف ،حيث يتناغم الجانب النظري مع الممارسة العملية ،وهذ له دلالاته الفكرية والثقافية المهمة .يبقى أن يعمد القائمون على هذا الفن اليوم من الاستفادة الممكنة من هذه الدراسات والبحوث والتي قام بها خيرة الباحثين في هذا الفن بالوطن العربي بتحقيقها وتنفيذ توصياتها المهمة ،بشكل يفضي الى تحقيق نهضة جديدة ،تتماهى مع تلك النهضة التي اجترحت الزمن الابداعي الجميل، شعراً ولحناً وصوتاً وذائقة جمالية، كانت تأبى الاسفاف والانحطاط، ونشر القبح والرداءة، في فنٍ كان الى وقت قريب ، معادل للحياة والبهجة الروحية الوحيدة التي لايكسرها الزمن ، في وجه البشاعة المادية، وكل مايشوه وجه هذه الحياة الجميل، التي تستحق أن تعاش بملء القلب والوجدان.نعم بالرغم من كل هذا الخراب والبؤس الروحي الممتد على كامل المشهد المعاصر “على هذه الأرض مايستحق الحياة” كما أخبرنا ذات مرة الكبير “محمود درويش”.