الثورة أون لاين – علي الأحمد:
بصير الموسيقا العربية، وأحد العلامات المضيئة في موسيقانا العربية المعاصرة، صاحب الرصيد الغني من الأعمال والمؤلفات الموسيقية، المشغولة والهاجسة بحب الوطن والحياة، التي ملأت الأسماع وأغنت الذائقة، لفنان استثنائي جميل، بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
حارب الإسفاف والرداءة والانحطاط الفني السائد، عبر برامجه الموسيقية النقدية “غواص في بحر النغم، و” شريعي “أو عبر تحليلاته الموسيقية الراقيه ونقده الأكاديمي المعرفي، لننعم بصحبة هذه القامة الإبداعية الكبيرة، الذي تغلب بصبر وعزيمة وإرادة، على الصعاب والعوائق الكثيرة التي صادفته، على المستويين الحياتي والإبداعي.
هو عمار الشريعي،” الصعيدي” الذي أسمع العالم ، موسيقاه العربية بأصالتها وجماليات تقاليدها، والتأكيد دائماً، على مكانتها وموقعها في موسيقات وثقافات العالم، من منطلق الاعتزاز بهويته الموسيقية المتفردة، مقاماً وإيقاعاً وارتجالاً، هو نسيج وحده، وخاصة في تركيبة ألحانه وثيماتها المائزة، ليجترح أسلوباً خاصاً به، بالرغم من تأثره روحياً ووجدانياً، بأساطين هذا الفن من “سيد درويش والقصبجي والسنباطي وزكريا أحمد، وغيرهم، نجد ملامح من فنهم العظيم في كثير من أعماله الموسيقية الكبيرة المشغولة بحرفية معلم كبير، وصائغ ماهر، للجمال الموسيقي النادر، الذي سكب فيه عصارة روحه وبصيرته الحادة التي أغنته عن فقدان البصر، عبر أعمال سكنت في الذاكرة والوجدان العربي، سواء في ألحانه الجميلة لأصوات عربية، أو أعماله المهمة في الإذاعة والتلفزيون والسينما، لتبقى موسيقاه التصويرية للدراما المصرية إحدى المحطات التاريخية والإبداعية لهذا الفن في العصر الحديث، وعبر هذه المسيرة الحافلة، لم يتوقف قلبه عن العطاء والإبداع الحداثي الأصيل. ولم يستكن أبداً لكل النجاح والشهرة التي أحاطت به، كفنان كبير، احتفى على الدوام بلحظات الجمال الهانئة التي وسمت أغلب أعماله، توجهها بعمله البديع “كونشيرتو العود” في محاولة منه لجعل آلة العود تنطق بلغة مغايرة، تحاور آلات الأوركسترا بكل ندية وتفرد، وخاصة عندما يكون فارسها فنان مبدع ومتمكن من أسرارها الخبيئة، وجماليات أصواتها التعبيرية، وحضورها في الذاكرة الجمعية، كآلة قادرة على عزف أصعب الأعمال الموسيقية، وهي تجربة مهمة في البحث عن لغة إبداعية مختلفة ومغايرة، انتشلت هذه الآلة من واقعها الرتيب الممل، كآلة تقبع باستكانة عجيبة خلف المغني تردد آهاته، حبيسة الطرب والتطريب المتوارث منذ آلاف السنين.
هو باختصار، “عمار الشريعي” صاحب السهل الممتنع، والحضور المضيء، الذي اجترح كما أسلفنا، مساراً إبداعياً خاصاً لاتخطئه الأذن والذائقة، كما أنه ساهم في العديد من المنجزات الموسيقية التي تؤكد على مكانة وإبداع هذا الفنان الاستثنائي بحق، يكفي في هذه العجالة أن نستحضر بعضاً من منجزه هذا، عبر التعاون المثمر، مع شركة “ياماها” اليابانية، في استخراج “ثلاثة أرباع التون” من الآلات الالكترونية، إضافة إلى مشاركته المهمة في إنتاج برنامج “Good feel” الذي يقدم النوتة الموسيقية بطريقة “برايل” للمكفوفين ولا ننسى ابتكاره العديد من الإيقاعات والضروب الجديدة والمشاركة في إنتاج العديد من الآلات التقليدية والشعبية وهو ما منحه أرفع الجوائز والأوسمة التي تليق بهذه القامة الإبداعية الكبيرة، منها جائزة مهرجان “فالنسيا” الإسباني وجائزة مهرجان “فيفيه” بسويسرا، ووسام التكريم من الطبقة الأولى من عُمان “ناله مرتين” عام ٩٢، وعام ٢٠٠٥ قدم فيها عمله المهم “تنويعات على ألحان عربية” بمصاحبة أوركسترا عُمان السلطاني، ووسام آخر من المملكة الأردنية، وجوائز عدة من جمعية نقاد السينما ومهرجان الإذاعة والتلفزيون، وجائزة “الحصان الذهبي” لأفضل ملحن في إذاعة الشرق الأوسط لسبعة عشر عاماً متتالية، وجائزة الدولة للتفوق في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة، والكثير من الجوائز والأوسمة، والأهم تقدير الجمهور العربي لأعماله ومكانته في تاريخ الموسيقا العربية المعاصرة، كأحد فرسانها النبلاء الكبار.
من أهم أعماله نذكر على سبيل المثال لا الحصر، الموسيقا التصويرية، “هو وهي، وليلة القبض على فاطمة، ورأفت الهجان، وأرابيسك، ودموع في عيون وقحة، والشهد والدموع، وأبو العلا البشري، والعندليب، وأم كلثوم، والمصراوية، وأفلام البداية، والشك، وأيام في الحلال، وآه يابلد، والبريء، وحليم، وأعماله المهمة للمسرح، رابعة العدوية، والواد سيد الشغال، والحب في التخشيبة، ويمامة بيضا، وغيرها، كما غنت ألحانه أصوات عربية مهمة، شادية، ووردة، وميادة الحناوي، ولطيفة، وأنغام، وغادة رجب، وعفاف راضي، ونادية مصطفى،وآمال ماهر، وعلي الحجار، ومحمد الحلو. ومحمد منير، ومدحت صالح، وعبد الله الرويشد، وغيرهم.
هي تحية متواضعة، لفنان أصيل، عاش لفنه كما يجب، نثر الحب والجمال والإبداع في تربة هذا الفن، ورحل بعد أن خانه وخذله القلب بعد معاناة طويلة ، لكنه باقٍ معنا، بأعماله الفاتنة الساحرة. نعيش معها بكل حب وتقدير، لموسيقار أصيل من طينة نادرة، كتب موسيقاه، بحبر قلبه العاشق وريشة عوده الساحر ، ليجترح لنا وللأجيال، المسير الحقيقي للحداثة والتجديد دون ادّعاء أو تصنّع، نتذكره في زمننا الضنين بالإبداع، نتلمس عطاياه وعمق حضوره في الذاكرة الجمعية، كواحد من كبار الموسيقا العربية المعاصرة، الذين قدموا لها كل هذا الجمال والإبداع الأصيل الذي لا يُنسى.