ثورة أون لاين -علي الأحمد:
يمكننا التأكيد هنا، أن النقد الموسيقي العربي على محدوديته وندرته، قدم قراءات معرفية مهمة، لأعمال موسيقية مهمة، لكن وفي ظل غياب المعايير النقدية الأكاديمية، تسلل بعض الأدعياء، الى هذا المجال الإنساني النبيل، وباتوا يشكلون خطراً على الذائقة ومجالات التلقي، وهذه إحدى أهم المشكلات والأزمات المستعصية التي لحقت بهذا الفن في إلفيته الثالثة العتيدة.
-فأغلب هذا النقد، يرتكز على أهواء ونزعات وانتماءات وتحزبات لهذا الطرف دون غيره، وبالتالي يتم إطلاق آراء فنية، تفتقر الى العلم والمعرفة، خاصة في مجال استشراف الغايات الاجتماعية والذاتية التي يحاول الموسيقي العربي، تجذيرها وتكريسها في الحياة الموسيقية المعاصرة، وهذا يطرح اسئلة مهمة، حول غياب أو تغييب هذا الجانب المعرفي المهم، في الجامعات والمعاهد الموسيقية العربية، وهو ماسمح لهؤلاء الأدعياء بأخذ زمام المبادرة، وقلب الحقائق الجمالية والذوقية رأساً على عقب، وبالتالي فرض مهرجين ودجالين بقوة المال الفاسد المفُسد، واعتبارهم نجوماً خارقين للعادة، حيث يتم تسويقهم في وسائل الإعلام، على أنهم المعيار الحقيقي للإبداع المعاصر، ولاداعي الى سوق الأمثلة على انعدام المعايير النقدية والجمالية، في هذا المشهد الكارثي والعبثي الى حد الإنحطاط، فهذه الوسائل الأعلامية تقوم بالدور على أكمل وجه. وهذا شيء أكثر من طبيعي، في ظل غياب التربية الموسيقية، التي وحدها كفيلة بإعادة التوازن والاتزان الى هذا المشهد الموسيقي. نعم هناك كما أسلفنا، بعض الأسماء المهمة في مجال النقد الموسيقي تحاول “ما استطاعت إليه سبيلا” في ردم الهوّة السحيقة، وإحداث شرخ حقيقي في مجالات التلقي والإدراك الجمالي، عبر قراءات معرفية معمقة، خاضعة الى مناهج وتيارات فكرية وفلسفية، تحاول أن تعيد المسار النقدي الى سويته ومساره المفقود، كعامل مهم في التحليل والكشف والإضاءة، لمنتوج الموسيقي العربي المعاصر، الذي يعاني كثيرا جراء غياب هذا الجانب المعرفي المهم ، بالرغم من الشائع في أن الموسيقى عموما من أكثر الفنون تمرداً على النقد لأنها لاتفصح بيسر عن المعاني والأسرار الخبيئة التي يكتنزها العمل الموسيقي، وهنا يأتي دور الناقد الموسيقي الخلّاق في حل وتفكيك هذه الأسرار وشرح الأساليب التلحينية في ظل الحياد التام ، اضافة الى التحليل والقراءة السيكولوجية المعمقة، في هذا العمل من خلال المعرفة بحياة المؤلف وخزينه الثقافي المعرفي بما ينعكس لاحقا، على توجهات المؤلف الموسيقي وتحديد خياراته الجمالية، التي قد تبدو في بعض الأحيان في تناقض حقيقي بين حياته ونتاجاته وهو مايضع الناقد الموسيقي في مأزق حقيقي، لايخرج منه إلا كما أسلفنا عبر خياره النقدي الوحيد، أن يكون حيادياً لأبعد الحدود
-وهكذا نرى، كيف أثّر غياب المعايير النقدية المعرفية، في اختلاط الحابل بالنابل في الحياة الموسيقية المعاصرة، بحيث أصبح من الصعوبة بمكان، في التمييز بين المبدع الحقيقي والمدّعي، بين الشاذ والطبيعي، بين الفن الحقيقي والفن المعلب المبستر، حيث تتسيد لغة فقيرة ورخيصة من الأهواء والآراء النقدية على تفاصيل المشهد، التي يفهمها البعض على أنها مسألة انطباع واستحسان أو استهجان كما يؤكد الدكتور “فؤاد زكريا” دون أن يعي هؤلاء الدخلاء، أن النقد هو في النهاية إعادة بناء حقيقية للعمل الموسيقي وليس إعادة طلاء وهدم له. يقول الباحث الدكتور “نبيل راغب” في كتابه المهم “دليل الناقد الفني” :”ومادام هذا حال النقد الفني، فإننا يجب أن نلتمس العذر للجمهور إذا ما أقبل على الأعمال الهابطة التافهة ظناً منه أنها النماذج العملية لما يجب أن يكون عليه الفن وكما يقول علماء الجمال والتربية إن الفن تربية وتعوّد، ومن يتعوّد على الفن الهابط فلابد أن تتلاشى حاسته الجمالية، وأن يتدهور ذوقه سواء في مجال الفن أم الحياة ولذلك كثيراً مانرى العملة الرديئة في مجال الفن تطرد العملة الجيدة ومن هنا كانت المعاناة القاسية التي يمر بها الفنان الأصيل حتى يصل بعمله الفني إلى أكبر قطاع ممكن من الجمهور وأحياناً تتحول معاناته إلى مأساة عندما يفشل تماماً في الوصول الى الجمهور نتيجة لإختناق المجال بالأعمال التجارية الهابطة المسفة.