الملحق الثقافي:د. غسان صالح عبد الله:
يؤكد التراث السوري القديم، أن الأم الكبرى التي مثلت خصب الأرض، أفرزت ابنها من خصوبتها إلى الخارج، ثم صارت هي الخصب وهو المخصّب، وشدَّته إليها برابطة أبدية هي الحب أو الرغبة، هي المركز وهو الذي يدور حول المركز، وتابع له ومشدود إليه، هي الهيكل وهو الكاهن، و»الكاهن» في القاموس السرياني يعني الخصب، ومثلما صارت تمثل الأرض «الرحم»، صار هو يمثل القمر.
وكما أفرزت عنصر الذكورة من رحمها الخصيب إلى الخارج ليبقى متعلقاً بها ويدور حولها، أفرزت الأرض القمر، والقمر في العربية القديمة والحديثة، كان دائماً مذكراً والأرض مؤنثة، وفي العربية القديمة، نجد أن الكلمة هي « كومر» وتعني الكاهن المخصب، ويذكر التراث أن القمر كان ملتهباً، ولهذا فإن أشعته تحديداً، هي التي أخصبت عشتار من أجل أن تنتج الرب، السيد الإنسان الأول في المركز، في الجنة.
أما ارتباط خصب عشتار بالقمر، فقد أكدته كافة المصادر السورية القديمة، فلقد صور السوريون القدامى عشتار، جالسة وبيدها البيضة وهي تعرضها لأشعة القمر في تزايده، إلى أن يصبح بدراً، وعن هذا الارتباط يقول هاردينغ: «إن حياة المرأة الفيزيولوجية والسيكولوجية، ذات طبيعة قمرية وإيقاع قمري».
لقد عبرت الأعمال التشكيلية للحضارات الأولى في ثقافات الشرق القديم، عن علاقة القمر بخصوبة الأرض ونمو الزرع والشجر، مدفوعة إلى هذا بالأفكار التي توارثتها عن الثقافة النيوليتية، فنجد في كثير من الرسوم كيف أن القمر والشجرة «عشتار» يندمجان في وحدة تشكيلية جمالية، ويبدو القمر وكأنه جزء عضوي من أجزاء الشجرة التي رسمها الفنان البابلي، بأسلوب زخرفي مبسّط جميل، ويكرر الفنان الأشوري العناصر نفسها، متَّبعاً الطريقة نفسها مع إضافة الحيوانات إلى الوحدة التشكيلية، لأن القمر مسؤول أيضاً عن تكاثر الحيوانات.
إن قدامى السوريين جهلوا أساس خلق الحيوان والإنسان، وقد أخبرونا أن الطاقة الحرارية التي نفخت الحياة في البذور وفي البيوض الأولى، إنما جاءت من أشعة القمر.
بالنسبة للطيور التي انتقلت، فقد ظلت دورة حياة أجنتها مرتبطة بالقمر، إذ إنها تفقس بعد ثلاثة أسابيع 21 يوماً. أي بعد أن يجتاز القمر ثلاثاً من وجوهه، وبعض الطيور كالنسر، تحتاج بيوضها كي تفقس إلى ثمانية أسابيع، إذ لا تفقس إلا في اليوم السادس والخمسين من بدء الحضن، ولهذا فقد صار القمر بأوجهه الأربعة، أساساً لعملية الحساب التي ارتبطت منذ البداية بدورة خصب المرأة والبيوض والبذور.
قُسّم الشهر إلى أربعة أسابيع، في أربعة أطوار القمر، ودعي القمر «مونا» والكلمة في القاموس السرياني من الفعل «منا» ويعني: «عد، حسب» و»منيان» حساب. علم الحساب «منوت» جزء، قسم، جهة، وجه.
من المعنى الأول جاءت «منيا»، وهو وزن بابلي ومكيال، انتقل إلى كريت واليونان ومصر وإيطاليا، وكذلك «منوت» بمعنى دقيقة، أو جزء من الساعة.
من المعنى الثاني «الجهة أو الوجه» جاءت تسمية أحد أوجه القمر الثلاثة، فكانت الربة العربية «مناة» هي التعبير عنه، ثم انتقلت هذه التسمية مع السوريين إلى بقاع أوروبا.
التاريخ: الثلاثاء26-1-2021
رقم العدد :1030