الثورة أون لاين – ترجمة ميساء وسوف:
تدرك حكومات مجموعة الدول الصناعية السبع جيداُ فوائد التكنولوجيا المالية الرقمية، ولكنها تشعر بقلق بالغ إزاء السياسة العامة والتهديدات الجيوسياسية من هذا الابتكار، لاسيما من “العملات العالمية المستقرة ” (GSCs) التي يديرها بشكل فضفاض عمالقة التكنولوجيا غير المالية، ولكن مع بقائها مقوّمة بالعملات الوطنية.
حذّر تقرير صدر مؤخراً عن مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى من أن مثل هذه الابتكارات تثير أسئلة جادة حول مجموعة من قضايا السياسة العامة، بما في ذلك “التحديات التي تواجه المنافسة العادلة، والاستقرار المالي، والسياسة النقدية، وفي أقصى الحدود، النظام النقدي الدولي”.
صرح وزراء ومحافظو مجموعة السبعة بوضوح تام أنه لا ينبغي أن تبدأ عمليات العملات العالمية المستقرة في العمل حتى يتم حل المشكلات التنظيمية والرقابية، وقد أدركت هذه الحكومات الحاجة إلى التعاون الدولي بشأن كيفية تنظيم العملات الرقمية الخاصة، لأسباب ليس أقلها أن البديل، وهو عالم مجان للجميع، قد يكون فوضوياً وخطيراً.
ومع ذلك فهم يرون أيضاُ أن العملات الرقمية المُنظّمة جيداً يمكن أن توفر فوائد عامة كبيرة بكفاءة أكبر وتكاليف أقل لكل من أنظمة المدفوعات المحلية والدولية على وجه الخصوص، وتساعد في ضمان وصول الخدمات المالية إلى مئات الملايين من الناس، خاصة في مجال تطوير البلدان بدون حسابات بنكية.
الصين حققت تقدماً جيداً حتى الآن في استجابتها للقطاع العام، حيث أطلقت تجارب محلية لرينمينبي رقمي مدعوم من الحكومة (RMB) في العام الماضي (2020)، وبدأت أيضاً في تضييق الخناق على Ant Group ، أكبر شركة للتكنولوجيا الفائقة في البلاد والتي تركز على التمويل.
وتدرس العديد من الحكومات والبنوك المركزية الكبرى الأخرى، ولاسيما البنك المركزي الأوروبي، الآن كيفية اتباعها للصين من خلال إطلاق عملات رقمية رسمية، وهم يدركون أيضاُ أن هذه القرارات لها آثار مهمة على النظام المالي الدولي الأوسع، مثل الدور المستقبلي للدولار والعملات الاحتياطية الأخرى، ودورها في دعم التجارة والتمويل الدوليين.
لماذا تريد البنوك المركزية عملاتها الرقمية الخاصة؟
أحد الأسباب المعلنة هو الكفاءات في أنظمة الدفع التي يمكن أن تنتج، ولكن الحقيقة هي أن دوافعها تختلف وتتجاوز حجة الكفاءة.
ففي حالة الصين، يمكن للرنمينبي الرقمي أن يعزز تدويل الرنمينبي ويساعد في كبح الدور المهيمن للدولار في التجارة والتمويل الدوليين، وقد يساعد هذا في الحد من تعرض الصين لسياسات العقوبات الأمريكية التي تعتمد بشكل كبير على مكانة الدولار البارز في التمويل الدولي، وتُعتبر العقوبات أيضاُ حافزاُ للاتحاد الأوروبي (EU) منذ أن فرضت إدارة ترامب عقوبات ثانوية على بعض شركات الاتحاد الأوروبي.
المفوضية الأوروبية تجادل بأنه من أجل تحقيق “الحكم الذاتي الاستراتيجي”، يجب أن يهدف الاتحاد الأوروبي إلى “تحسين إنفاذ أنظمة عقوباته وزيادة المرونة في مواجهة آثار العقوبات غير القانونية خارج الأراضي من قبل دول ثالثة”، ويمكن أن يعزز اليورو الرقمي هذا الهدف، بالإضافة إلى تعزيز الدور العالمي لليورو.
وتوضح البنوك الأوروبية أيضاُ أنها تريد من حكوماتها ضمان عدم تخلف الاتحاد الأوروبي عن الركب في أي سباق لتطوير العملات الرقمية والرموز الخاصة بالقطاعين العام والخاص، حتى يتمكنوا من الاستفادة من الكفاءات الناتجة.
كيف ستؤثر العملات الرقمية على الجغرافيا السياسية؟
لا يزال توسع شركات التكنولوجيا الكبرى في التمويل العالمي في مهده، ولكن مع توسع هذه الشركات العملاقة وتوسيع نطاق البنوك نفسها لبصماتها الرقمية، فإن التكنولوجيا المالية لن تعيد تشكيل المجال التجاري فقط ولكنها أيضاُ ستعيد تشكيل المجال الجيوسياسي.
وحذر مستشار الأمن القومي البريطاني السابق السير “مارك ليال جرانت” مؤخراً من التهديد المالي الصيني من الرنمينبي الرقمي ، حيث كتب أن إدخال “اليوان الرقمي” من شأنه أن يمنح الصين “القدرة على تجاوز الأنظمة المصرفية التقليدية في العالم ومن ثم تحدي مكانة الدولار المرموقة”.
في عام 2019، تحدث محافظ بنك إنجلترا، مارك كارني، عن ” عدم التناسق المزعزع للاستقرار” في النظام النقدي الدولي، وأعرب عن أسفه “للتأثير المهيمن” للدولار، وأشار إلى أن هناك مناقشة نشطة جارية حول التأثير المحتمل للعملات الرقمية على السياسة العالمية.
وأكّد كارني أن “الرنمينبي” هو المرشّح الأكثر احتمالاُ للانضمام إلى الدولار باعتباره “عملة احتياطية حقيقية”، مشيراً إلى أن الرنمينبي يحرز تقدماً كبيراً كوسيلة للتبادل خاصة في التجارة والتمويل، ومن وجهة نظره فإن التكنولوجيا يمكن أن تلعب دوراً هاماً في تسهيل ظهور عملة احتياطية عالمية جديدة، ويمكن أن يكون الرنمينبي الرقمي خطوة هامة في هذه العملية.
هل نتجه نحو تعاون نقدي أم مواجهة؟
إن الإدخال الواسع للعملات الرقمية لديه القدرة على تغيير النظام المالي العالمي، ففي كانون الثاني 2020، أعلنت مجموعة من البنوك المركزية ذات الاقتصاد المتقدم، ومنها كندا والمملكة المتحدة واليابان والسويد وسويسرا والبنك المركزي الأوروبي، أنها تعمل معاً على العملات الرقمية للبنك المركزي تحت رعاية بنك التسويات الدولية ( BIS).
وانضم وقتها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أيضاُ، لكن يبدو أن الصين وعلى الرغم من إطلاق تجارب رقمية محلية لليوان لم تكن جزءاُ من المجموعة، ومن المؤكد أن التحدي الجيوسياسي الذي يلوح في الأفق من الصين هو دافع للآخرين، وخاصة اقتصادات مجموعة السبع، للتعاون.
لكن الاتفاقات التعاونية بين هذه البنوك المركزية يمكن أن تلعب دوراً محورياً في تشكيل المعايير الدولية للعملات الرقمية السيادية، بالإضافة إلى التنظيم والإشراف على نظام مالي عالمي يتسم برقمنة أعمق، وقد تعززت فرص عمل مجموعة الاقتصاد المتقدم للبنوك المركزية معاً بوصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض.
وبما أن الصين تمضي قدماً في خططها الخاصة بعملة رقمية مع نظام مالي يضم بعضاً من أكبر شركات “التكنولوجيا المالية” في العالم، فإن هذا يمثل تهديداً لقيادة أميركا للتمويل الرقمي ودور الدولار في النظام النقدي الدولي، ما يدفعها للتعاون مع حلفائها الأوروبيين لحماية مصالحها الخاصة.
المصدرChatham House