الملحق الثقافي:
عندما أطلق الفيلسوف الفرنسي “جون لوك” فكرة الليبرالية، كان المجتمع الغربي بكامله تقريباً، جاهزاً لتقبّل فكرة الحرية الشخصية الرافضة للمرجعيات التي اتَّسمت بالقداسة، على مرِّ العصور التي سبقت فكرة طرحه هذا.. الطرح الذي وُسِمَ بالشجاع آنذاك. مع ذلك وعلى الأغلب، لم يكن ذاك المجتمع متقبِّلاً لفكرة المساواة الاجتماعية التي رافقت الحرية، التي تأخرت قليلاً حتى أخذت حيز التطبيق الاجتماعي، وذلك بسبب تأثير الذاكرة الجمعية المُسيطَر عليها، من قبل الأيديولوجيات الكنسية.
اليوم، وبالرغم مما ينعم به الغرب من حريات شخصية ودينية، بمعنى أن الفرد هو من يحدّد ما يناسبه من العقائد، وله حق الاختيار المطلق، إلا أن هذه الفكرة بالذات، أثارت حفيظة أرباب المجتمعات العربية، حيث الدين السائد يمنع مثل هذه الحريات التي من شأنها، أن تُسقط قناع المرجعيات التي قامت على مدى القرون الماضية تحت شعار “دنيا ودين”، وهذا ما سيؤثِّر بالضرورة سياسياً واجتماعياً، على المكتسبات المادية والمعنوية لتلك المرجعيات التي عمدت إلى مواجهة الأفكار الجديدة، واعتبرتها دخيلة عليها، وعلى عاداتها وأعرافها المعمول بها، وفقاً لنظريتها الدينية، وعليه كان لابدَّ من اتخاذ مواقف تجاه ما يُعرف اليوم بالليبرالية الحديثة، على الرغم من أنها غير مؤثرة في المجتمع العربي عموماً، والسوري على وجه الخصوص.
غير مؤثّرة، لأنها مازالت أصواتٌ لبعضِ من يظنّ بأنه علماني متحضِّر، وإذ به أكثر تطرّفاً من المتطرفين دينياً، وهذا مردّه إلى قوّة التأثير الديني على الذواكر الباطنية لأولئك العلمانيين الصاعدين على غير هدى.
إذاً، لا يمكن تطبيق فكرة الحرية الشخصية في مجتمع غير جاهز أساساً، وغير ملمٍّ إلماماً معرفياً وعلمياً، يجعله في طليعة العارفين المتميزين، بالفهم العميق لأفكار تلك المصطلحات الجديدة والغريبة عن مجتمعه وأسرته، وعنه هو بالذات أيضاً.
من هنا، فإن علينا وقبل أن نتخوّف من تفشّي تلك الأفكار التي تباعد بين الفرد وأسرته، وبين الأسرة ومرجعياتها المقدسة، علينا أن نتفحَّص ونفهم بشكلٍ دقيق، أفكار تلك الأيديولوجيات الدينية التي حملها إلينا ما يُعرف بالربيع العربي، فقتلت وأحرقت ودمّرت وأقصت وكفّرت، وكل ذلك، باسم التدين وتحت عباءة الدين الواحد، فكانت شعارات الدين السياسي وأيديولوجياته، تعتبر أخطر بآلاف المرات من الليبرالية الحديثة، والدليل هو ما جرى في سورية وفقاً لتلك الأفكار، وما سبّبته من إرهاب جعل الفرد يعادي أباه، ومستعدٌّ لقتله وقتل أمه وأخيه في سبيل الفوز بحياة ما بعد الموت، أو ما يعرف في أدبياتهم بالجنة.
إذاً، ودون الحاجة إلى أفكارٍ جديدة عن الليبرالية المطوّرة، نحن نعاني مما هو أشدّ وطأة، وبما يجعلنا متخلّفين اجتماعياً.. نعاني من الحريات المنفلتة، حسب ما يتمّ وصفها من قِبل القائمين على رعاية المجتمع دينياً، فحرية القتل مثلاً، هي من صلبِ النظام الداخلي للأحزاب الدينية السياسية التي تبيحها وفقاً لمرجعٍ طائفيٍّ، يضع القاتل في الجنة والمقتول في النار، وبكلّ تأكيد، فإن قوانين الدولة ودستورها، يمنعا منعاً باتاً وقاطعاً، أيّ تواجد لتلك التحزُّبات في مؤسساتها، ولكن الواقع يؤكّد أن التحزّب الديني، كان يعمل في الظلام، متخفِّياً تحت أجنحة المجتمع، وعندما قرّر الظهور إلى العلن، وجدنا أن أعداداً كبيرة التحقت به، وفقاً لأفكارٍ دينية درجوا على تقديسها، فكان ما كان من خرابٍ يصعب توصيفه في هذه العجالة.
إن الاعتقاد السائد حول العلمانية والليبرالية، بأنهما يشكّلان خطراً كبيراً على المجتمع، هو اعتقادٌ غير دقيق، فالخطرُ يكمن في عدم فهمهما، فالعلمانية ليست ضد الدين، ولا ضدّ أي معتقد، وتلتقي مع الليبرالية في هذا، وتزيدها الليبرالية بحرية اختيار المُعتقد، وحرية اختيار المعتقد، هي الأهم للخروج من دائرة الفوضى المغلقة، بمعنى الفوضى التي تؤدي بالمجتمع الواحد، إلى الامتثال الداخلي فيما بين مكوناته، فداءً للمعتقد أولاً، والاستيلاء على المناصب والسلطة ثانياً، وكلّ هذا، وفقاً لأجنداتٍ خارجية، وعلى رأسها الأجندة الصهيونية ومصالحها التوسعية في المنطقة، وعليه فإن من المفترض أن نعمل على تغيير الأفكار الهدّامة، المحمولة على حوامل دينية بحتة، والتي هي من أصلٍ له جذور تاريخية ممتدة زوراً وبهتاناً، على لسان الرأس الأعلى لهذا الدين أو ذاك.
من هنا، حين نعلن أن الليبرالية الحديثة تشكل خطراً، علينا أن ندرك أن المجمع العربي يعيش أخطاراً متلاحقة، منذ قرونٍ بعيدة مضت لكنها تتجدّد باستمرار، مع أننا نرفض تلك الحريات المنفلشة بالمطلق، وندعم الحريات المُعقلنة التي تأخذ بآراء الكبير ذي الخبرة والتجربة، فبكلِّ تأكيد نرفض رفضاً قاطعاً، كلّ أيديولوجيا دينية ملتزمة بقتلِ الأبرياء بعد تكفيرهم، وملتزمة بفرضِ سلطتها فرضاً قسرياً، يلوِّن المجتمع لوناً واحداً لا غير، ولتفعيل هذا الرفض، علينا العمل على تغيير الذهنية والأفكار المطبوعة على الشرِ والظلم والضغينة والأحقاد المتوارثة، فهما الأخطر حتى يومنا هذا، من أيِّ مصطلحٍ عابرٍ للبحار.
التاريخ: الثلاثاء2-2-2021
رقم العدد :1031