تعطي إدارة بايدن إشارات متناقضة إزاء ماهية تعاطيها مع الملفات الدولية خلال المرحلة القادمة، وتغلف استراتيجيتها السياسية بهذا الشأن بشيء من الضبابية، لإعطاء نفسها مساحة أوسع للمناورة، هي توهم العالم بأن لديها مقاربات جديدة مغايرة لرؤية إدارة ترامب السابقة، لكنها تتشبث بسياسة الهيمنة كنهج ثابت لا يخضع لأي تغييرات.
واشنطن أعلنت عن عدة خطوات اتخذتها على مسار العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وتحدثت عن قبولها الوساطة الأوروبية للعودة إلى الحوار، ومن دون شروط مسبقة، ولكن تلك الخطوات لم تخرج عن إطار التسويق الإعلامي، وكل خطوة مسبوقة بإشارات تناقضها، حيث زعم بايدن خلال مؤتمر ميونخ للأمن أن إدارته مستعدة للانخراط مجدداً في المفاوضات، ولكنه في الوقت ذاته حث حلفاءه الأوروبيين لمواجهة ما سماه ” أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار”، وإدارته سحبت طلب الإدارة السابقة إعادة فرض العقوبات بموجب ما يسمى “آلية الزناد”، ولكنها في الوقت ذاته أعلنت أنها لا تخطط لرفع العقوبات قبل إجراء التفاوض، وأكدت أيضاً مواصلة ضغوطها لإقناع الدول الأخرى بالعدول عن بيع أسلحة لإيران، وكذلك أعلنت تخفيف القيود عن تنقلات الدبلوماسيين الإيرانيين في نيويورك، لكنها لم تلغها بالكامل، وكل تلك الخطوات لا معنى لها بالمطلق بحال لم ترفع العقوبات بشكل كامل كما ينص عليه الاتفاق النووي، وهذا هو الأمر الوحيد الذي يثبت فعلاً جديتها بالعودة إلى الاتفاق.
ربما تكون واشنطن قد أدركت مؤخراً أن سياسة الضغوط القصوى لا تنفع مع إيران، وأنه لا يمكن ابتزازها تحت سيف العقوبات، ولكن يبدو أن إدارة بايدن تريد من وراء تلك الخطوات غير الناجزة بعد، محاولة جر إيران للتفاوض على مسائل من خارج الاتفاق النووي، “الصواريخ البالستية، والسياسة الإيرانية بما يخص العلاقة مع دول المنطقة، ودعمها لحركات المقاومة”- من أجل إرضاء حلفائها المعارضين للاتفاق النووي ممن حرضوا ترامب على انتهاكه والانسحاب منه- ولكن هذه أمور سيادية لا يمكن لإيران قبول التفاوض عليها، وسبق لإدارة أوباما أن فشلت بإخضاع هذه المسائل للتفاوض، وطهران لن تحيد عن موقفها الرافض لإعادة التفاوض حول اتفاق مبرم وناجز، وبحال أبدت الإدارة الأميركية جدية فعلية، فطهران أكدت استعدادها للتراجع عن خطوات خفض التزاماتها، التي كانت قد اتخذتها رداً على الانتهاك الأميركي، وعدم إيفاء الأوروبيين بتعهداتهم.
بايدن، وفي تناقض واضح مع مزاعمه حول انتهاج سياسة الدبلوماسية والحوار في العلاقات الدولية، أعطى أيضاً إشارات قوية خلال مؤتمر ميونخ على استمرار النهج المتغطرس الذي سلكته الإدارات الأميركية المتعاقبة، وهجومه الحاد على روسيا والصين، وتحشيد حلفائه ضد هذين البلدين، يدل على أن إدارته تسعى لإعادة ترتيب موازين القوى العالمية بما يتناسب مع النزعة الأميركية نحو الحفاظ على سياسة هيمنة القطب الواحد، وهو حث الدول الأعضاء في “الناتو” ليكونوا عوناً لإدارته على هذا الصعيد، وهذه دعوة صريحة للتمسك بمبدأ “التكتلات” خلافاً لتحذيره من العودة إلى مثل هذه السياسة، والرسائل التي وجهها أعضاء المؤتمر بضرورة وضع أجندة مشتركة لأوروبا والولايات المتحدة عبر “الحلف”، فيما يتعلق بروسيا والصين لأنهما “يتحديان” النظام الدولي القائم على “قواعد مرسومة”، على حد وصف الأمين العام للحلف ينس ستولتنبيرغ، يشير إلى أن إدارة بايدن تهيء إلى جانب أتباعها الأوروبيين لمرحلة تصادم في المرحلة القادمة، من شأنها تهديد الأمن والسلم الدوليين، فهذه الإدارة لن ترضى لأي قوى دولية أخرى أن تعمل على تغيير قواعد الهيمنة والتسلط التي تحكم النظام الدولي الحالي من أجل تصحيح مسار العلاقات الدولية، فهذا يتعارض مع الأجندات الأميركية والغربية، وهي بذلك لا تختلف بالمطلق عن إدارة ترامب من حيث الجنوح نحو عسكرة العالم لتحقيق مصالحها الاستعمارية، فهي تغير الأسلوب والتكتيك فقط.
نبض الحدث- بقلم أمين التحرير ناصر منذر