الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:
“لِمَ يعاني الكثيرون في العالم من الجوعِ والفقر، رغم وجود غذاءٍ، وموارد أخرى كافية لمنعه؟!…
سؤالٌ، لم يجعله الكاتب والباحث “راي بوش”، أستاذ الدراسات الإفريقية والتنمية في جامعة “ليدز” البريطانية، محور كتابه “الفقر والليبرالية الجديدة”، إلا لتبيان كيف تكون المجاعة، وانعدام الأمن الغذائي، جزءاً أساسياً من الرأسمالية الحديثة. أيضاً ليؤكّد، أن أهمية التجارة، وجهود تخفيف عبء الديون، ومبادرات التنمية، لا تغيّر من هيكل الاقتصاد العالمي، ولا من انتشار الفقر الذي تخلقه عمليات مثل الخصخصة، وتحرير التجارة، وإصلاح الأسواق.
بيَّن وأكّد ذلك، مشيراً إلى أن الخطابات الحماسية التي يُطلقها البنكِ الدولي والثمانية الكبار، لا تمنع من تفاقم الفقر، بل تحافظ من خلال مستوياته العالية، على ثروة وسلطة الغرب، وهو ما يتطلّب برأيه:
“مقاومة السياسات الليبرالية الجديدة، والنضال بخصوص الأرض والموارد، وغيرهما مما يشكّل بدائل حقيقية للعولمة القائمة”.
هذا ما بدأ “راي” بالدعوة إليه، ولكن بعد أن قدّم توضيحاً تفصيليّاً، لكلِّ ما تناوله في كتابه من فصولٍ بدأها:
الفقر والليبرالية الجديدة..
الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
لا يهمّنا هنا تعريف “راي” للفقر، بل إشارته إلى الانحياز الليبرالي الجديد، للادِّعاءات القائلة، بأن منطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، تمتَّعت تاريخياً بمستوياتٍ منخفضة من الفقر.
يشير إلى ذلك، مبيِّناً عجز هذا الادّعاء عن إدراك كون هذا الفقر، لا ينشأ بسبب الإقصاء، وإنما بسبب “الإدماج المتفاوت” للفقراء في العمليات الاقتصادية والسياسية، وعبرَ سياساتٍ اتّهمها بأنها “نادراً ما تقدّم فهماً للفقرِ وعلاقته بالتعبئة السياسية، وهنا تكمن الفجوة الإشكالية، حيث تروّج الولايات المتحدة والشركاء المتحالفون معها، لحربٍ عسكرية ضدّ “محور الشر” كما تتصوّره أدمغتهم، أو كما تشاء أن تسمّيه، دون محاولة تناول أسباب الصراع، ومعدّل الفقر المتسارع جداً، في الشرق الأوسط وشمال افريقيا”.
إنه التجاهل. تجاهل السياسيين الغربيين، للصلة بين الفقر والصراع، بل هي عملية خلقٍ للفقر، وإعادة إنتاجه، وبعبارةٍ أخرى، هي اعتداءٌ باسمِ الديمقراطية، التي قال في أحد أمثلته عنها:
“مع عدوان الولايات المتّحدة وحلفائها على العراق، والادِّعاءات المتكرِّرة، بأن تحرير الاقتصاد في المنطقة ككلّ، سيؤدي إلى المزيد من الديمقراطية. صرنا الآن، وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، في أمسِّ الحاجة لدراسة عواقب هذا العدوان التي ستنعكس على الفقر في الشرق الأوسط، وشمال افريقيا”.
إنه ما ساعد على تدعيم سلطة الرأسمالية العالمية. سلطة رأس المال على العمالة والسلع والاستثمار، مع تبرير ذلك، بأنه إدماج في “اقتصادٍ عولمي – عالمي”.
الأرضُ والفقر.. والسياسات الريعية
يتناول “راي” في هذا الفصل، استراتيجيات التراكم الرأسمالي الذي قام على تسليع وخصخصة الأرض، والطرد القهري للسّكان من الفلاحين، وتغيير أشكال الملكية، وكبت حقوق العامة، وكبت أشكال الإنتاج والاستهلاك البديلة والأصلية.
أيضاً، السلب والنهب، وانتزاع الموارد ونظم العمالة القسرية، وأشكال التحكّم المالي، وغير ذلك مما يبيّن فيه، ما ننقل من تعليقه عليه:
“إن كانت الرأسمالية ولدت من السرقة والنهب، والقتل والتدمير الذي أحدثته للاستيلاءِ على خيراتِ الشعوب، فإنها قد استمرّت حتى الفترة المعاصرة، بواسطة الحرمان من الملكية. مثلاً: سيستمرُّ نهب موارد افريقيا مع التعدين، واستخراج الثروة المعدنية. الأرض أيضاً، هي المحور الأساسي، بالنسبة للطرق التي تمّ التعامل بها مع الفقراء، والمزارعين الذين لا يملكون أيّ أراضٍ تقريباً”.
هكذا تنشأ السياسات الريعية بسرعة أكبر، وتكبر أكثر حينما تكون العوائق المؤسَّساتية الكابحة للفساد ضعيفة، وفرصة التراكم الرأسمالي قائمة أساساً على العضوية، أو الارتباط، أو الصلات، مع رأس المال الأجنبي.
هو رأيٌ ما تبنّاه إلا بعد أن درسَ وبحث واكتشف، بأن الفقر وانعدام الأمن الغذائي في العالم، من السمات الحتمية للرأسمالية الحديثة، وبأن القضاء على كلّ هذا، هو من المستحيلات.
مقاومة الفقر والليبرالية الحديثة
بيدَ أن المستحيلات، لم تكن لتدوم لدى “راي” الذي أبى الاستمرار في يأسه من قدومها، وإحباط كلّ أملٍ لدى الفقراءِ بأنها لابدّ آتية، ومخلّصة لهم من الرأسمالية الحديثة وتأثيراتها.
نعم، هو لم ييأس، لكن أمله بالخلاص منها كان منوطاً بهمّة وعزيمة الفقراء، ممن دعاهم إلى رفضِ الإذلال والقهر والاستغلال، والتمسك بالصفات الإنسانية، والبحث عن عالمٍ يقوم على القيم والأخلاق والاحترام والكرامة.. عالمٌ، فيه من الدروس التي يمكن الاستفادة منها بالنسبة لمستقبل الفقر، وتوزيع الدخل والتخلص من التخلف السياسي، ما ذكر منه:
– الانشغال بالعلاقات الاجتماعية والإنتاجية التي تولِّد الدخل، بدراسة آليات خلق الفقر في الريف، وتحليل الطرق التي يتم بها تنظيم سبل المعيشة، وكذلك – تحليل طبيعة الحياة السياسية، وكيف تدار، ولمصلحة من تتَّخذ القرارات، وأين يكمن النفوذ على السياسات المُّشكلة للطبقة والسُلطة.
– ربط النقاش حول التعليم وتنمية المهارات، بالفائدة المستهدفة من هذه التنمية، فلو أن الغرض من تحسين ميزانيات التعليم، إدماج الناس في الاقتصاد العالمي كما هو الحال، فلا بدَّ من مقاومة هذا، وتركيز الفائدة على دمج نشاط المجتمع، في تصميمِ وتنفيذ السياسات التعليمية.
– ضرورة إعلان الحاجة إلى سياساتِ تمكين المرأة، لتخفيض الفقر وتنمية رأس المال البشري.
– تحسين التعلُّم لا يتعلق فقط بالميزانيات، بل بما يُدرَّس، وكيف يتم إيصاله، وما شكل الأبعاد الإقليمية لاستراتيجية التعليم.
– التجارة هي القوة الدافعة للنمو الاقتصادي، ومن ثمَّ تخفيض الفقر، وهذا يعتمد على تشغيل الأسواق بشكلٍ أكثر فعالية عموماً، وتصميمها الموجه للخارج خصوصاً.
– النظر للأيدلوجية المحلية “الإسلام” باعتبارها أداة لتشجيع أنظمة أخلاقية بديلة، تحاول استيعاب وجهات نظر أكثر شمولية عن الفقر، بالإضافة إلى مبدأ تشجيع النمو الاقتصادي مع العدالة الإنتاجية.
يذكر كلّ هذه الدروس، ليكون أهم ما يدعو الفقراء للقيام به، النضال والمقاومة وتحدّي الإدماج المتفاوت للشعوب في العولمة، والصراعات التي تدور حول سبل الوصول للموارد والعمالة، والغذاء والمعادن والأرض.
“لايزال النضال مستمراً، رغم الفقرِ المفزع، والطُرق التي تتمُّ من خلالها إعادة إنتاجه.. النضال لايزال مستمرّاً، ضد قوى العولمة والعسكرة والهيمنة الحالية، فالنضالات التي تخصُّ الفقراء والجياع، هي تلك التي يشكّلونها ويتحكّمون فيها، ليرفعوا من شأن إنسانيتهم، ويعيدوا خلقها..”.
التاريخ: الثلاثاء6-4-2021
رقم العدد :1040