شيفرة الجذور مراحلٌ إبداعيَّة لـ «أكثم عبد الحميد» في تجلِّيات

 

الملحق الثقافي:عمار حسن *

“أكثم عبد الحميد” ليس بالفنان الذي يمكن الحديث عنه باختصارٍ، ولا بكثيرٍ من التوصيف والتحليل يمكن الإحاطة بفنّه، لا تطاله الكلمة بل قد تقاربه، فالتشكيل النحتي عبر تجربته الطويلة التي تمتد لعقودٍ، ليس كلّ ما يظهر مرئيَّاً، بل ما يُخفي من امتلاء، تاريخ وجذور، وليس المقصود هنا حضارة تمتد لآلاف السنوات وحسب، بل شيفرة من الحب والخصوصية يفككها أكثم نحتاً، والنحت هنا بدءاً من الصلصال الذي نفخت فيه أساطير وعيون ووجوه تحدِّق من الماضي إلى المستقبل، وكأنها تلخِّص كلّ الذاكرة، تحدِّق بعيونٍ سومرية، فكأن الصلصال لديه كان يشير إلى البداية، وهكذا كانت بدايات أكثم بتلك العيون السومرية التي يرى من خلالها العالم، ثم ليُريها للعالم، هذا ما صار عليه أكثم عبد الحميد، قاص الحكايات السورية نحتاً، وهذا كلّه متروك لحوارِ العين والروح، ولكلٍّ حبه.
الخشب وخصوصاً جذوع الزيتون، هو الخامة التي تحتل المساحة الأوسع في تجربة أكثم من بداية الثمانينيات حتى اليوم، إلى جانب الرخام، لأنه يختزن تاريخ المكان، وهو أكثر رهافة وليونة للاحتفاءِ بجسد الأنثى، الموضوع الأثير لعبد الحميد، فمن خلال انحناءات هذا الجسد، لامس البحر والجبل والأشجار، بيئته الأولى، الجمال ورؤيته الفكرية، وقدراته على التشكيل والسيطرة على الكتلة، لا بل وإشعالها بالعديد من المؤثرات البصرية، ليمنحها المزيد من المعنى، المفردات، والإشارات والرموز التي ضمَّنها لعمله النحتي ومنها: الغزال، الشمس، طيور السلام، البيت والأمكنة، الأمواج والمراكب والأسماك، والزخارف، الشال والشعر المتطايران مع الهواء، وغيرهم الكثير.. كل هذا ليمنح عمله المزيد من التكثيفات المعرفية والحركية والجمالية، إنه يجمع بين الحياة والجمال.
مراحلٌ إبداعية
يمكن الحديث عن الصلصال كحالة ومرحلة إبداعية في تجربة عبد الحميد، ويمكن الحديث عن التضمينات الأسطورية كحالة ومرحلة، ويمكن الحديث عن خامة الزيتون، الجوز، والمرأة، كمواضيع لهذه الخامات كمرحلة، كما يمكن الحديث عن التشكيل النحتي المستند إلى الجذور المعرفية والحضارية لمرحلة في الفهم والوعي الفكري، ويمكن الحديث عن النحت الجماعي الذي قاده أكثم في اسبانيا، على سبيل المثال، كمرحلة اتَّسمت بالانتقال من الفنان الفردي إلى الفنان في إطار المجموع، ضمن توجّه فكريٍّ سوريٍّ حضاريّ، كان له صداه في الغرب، ويمكن الحديث أيضاً، عن أكثم كسفير للنحت السوري عبر ملتقيات العالم.
في إطار المراحل والتعبير، أو الحمولات المعرفية والوجدانية التي اتَّسمت بها كلّ مرحلة، يمكن الحديث عن المرأة الجسد، الذي يشبه ذاكرة المكان الذي انتمى إليه عبد الحميد، فكان البحر والجبل وطيور النورس وسنابل القمح والنجوم والأقمار، وكلّ تلك الإشارات والرموز والزخارف التي تزيد خصوبتها الجمالية، كما يمكن التوقف عند رأس المرأة الذي شغل أكثم في مسيرته البحثية، حيث كثَّف فيه الهواء والماء، وأطلقه للعين حاملاً وعيه الوجداني، وشكل فهمه الأنثوي الفني والجمالي في ذات الوقت، وصولاً إلى مرحلة تشفيف هذه الخامات، لتغدو أثيراً توشك أن تتَّحد بالفضاء وتراقص الهواء.
المراحل عند أكثم لا تتوقف عند هذه التصنيفات، وإن كان التصنيف ضرورة ذهنية للمعرفة، فيمكن عندها الحديث عن مرحلة الحرب على سورية، وانتقال الأعمال بمواضيعها من الفردي إلى الهمِّ الجمعي، فصار التركيز لديه على الأبعاد الاجتماعية، مكثِّفاً المجتمع في أسرة، متَّسعاً ومتنقِّلاً من فضاء الأسرة – المجتمع، عبر هذا التجمُّع المختزل للشكل الإنساني، الذي يقارب النحت الآكادي في عفويته، وهو بذلك يحدِّد مجتمع النحت عبر نوعية التشكيل النحتي، من خلال هذا التبسيط والاختزال الشديدين، ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فهو يُدخل أكثر من خامة، وأكثر من درجة لونية وشكل تشكيلي، إلى هذه الكتل الجمعية أو المجتمعية، بتعبير أدق، وهو ما يشير إلى تنوع الطيف السوري، الذي يعيد أكثم جمعه وصياغته جمالياً عبر النحت، فهل يمكن الحديث عن هذا باعتباره مجرَّد نحتٍ، أم فعل سلامٍ ومحبة عبر رسالة النحت إلى كلّ سوري؟.
حتى هنا لم تتوقف المراحل الإبداعية عند أكثم، فهو في كلِّ مرة ُيخمّر الزمن والحال الوجداني، فترتقي التجربة الفنية وتضيف للحال أحوالاً جمالية، فهل سنعرف عندها إلى أي مرحلة ينتمي هذا العمل أو ذاك؟!
مرحلة ما بعد الحرب، اتَّخذت أبعاداً خاصة لجهة الجمع بين الإنسان والعمارة، فهما من طالتهما الحرب بتأثيراتها، وهنا نشهد تحول أكثم من الهمِّ الفردي إلى الجمعي، عبر صياغات بخاماتٍ مختلفة، من الرخام والبازلت معاً، أو عبر الخشب أو البرونز، والبازلت منفرداً، وهنا يبرز توجّه جديد لأكثم، بخروجه عن التشكيل النحتي المألوف، إلى تسطيح الكتلة، وهذا مفهوم يجمع بين معنى المرحلة وتأثيراتها عليه، لجهة سحق الحلم والحياة وتسطيحها، ولجهة تقاطع هذا التسطيح مع النحت الآكادي من جهة أخرى.
ما يقدمه الفنان أكثم عبد الحميد اليوم، يلخّص مسيرة وتجربة نحتية تختصرُ عمر النحت السوري الحديث، ويضعنا في مواجهة تجربته بشكلٍ خاص، لنلاحظ مدى وعمق التحوّلات بين مرحلةٍ وأخرى وعملٍ وآخر، وإذا انتقلنا من مراحل الحالات النحتية الفردية التي قدّمها، يمكن أن نشهد تحوُّلاً من المرأة والأنثى الجمالية بتفرّدها، إلى الأنثى الأم، تلك المتَّصلة بالأرض والمخضَّبة بخصوباتٍ متنوعة وعميقة المعنى، ففي عمله إيقاع الأرض، وهنا أشير إلى أن أكثم لم يسمِّ أعماله، بل هذه التسمية مقاربة للمعنى، وهي بمثابة اقتراح. في هذا العمل نشهد العديد من النسوة في اتِّحادٍ وتكاتفٍ، وبنظرٍ يتَّجه نحو الأرض لتكتمل دائرة الرقص، وكأنَّها الأرض هي التي تدور بهنَّ بإيقاعها المتفرد.
وإذا ما انتقلنا إلى عملٍ آخر، ولنسميه بمقاربة المعنى، الأم السورية، ويمكن الحديث عن أمٍّ كونية، وهنا تبرز بشكلٍ واضح علاقة أكثم مع الأرض، فهي في هذا العمل وجه أنثوي كبير، بالمقارنة مع حجم العمل، يتسامق كجذع شجرة يتفرَّع عنه العديد من الجذوع التي تنتهي بوجوه أنثوية، إلى جانب طيور وأحصنة، وإن كانت الأحصنة فيه إشارة مفردة وكذلك الطيور، لكن وجودها ضمن هذا التشكيل الجمعي يعطيها معنى الكل، وهكذا يصبح العمل بمعنى الأم الكونية التي تحتضن الإنسان والحيوان والطيور والنبات بذات الوقت، ضمن اشتغالات خطية على سطوح العمل، تتَّخذ إيقاع الموسيقا التي ترافق هذا الاحتفاء والاحتفال.
مراحل إبداعية لأكثم عبد الحميد، يوضح مراحل التجربة وهذا في العموم، لكن أهم ما يتجلَّى عن هذه المراحل، أنثوية وجمالية صور الأرض التي تعكسنا.
* كاتب وفنان تشكيلي

التاريخ: الثلاثاء6-4-2021

رقم العدد :1040

 

آخر الأخبار
مناقشة احتياجات بلدات اللجاة بدرعا مهمة طارئة لمكافحة حرائق المحاصيل في تل أبيض ورأس العين اللبنات الأولى للمنطقة الحرة في إدلب وميناء جاف علوش لـ"الثورة: خطوة اقتصادية واعدة تعزز التنمية الأفراح تحت رحمة الرصاص.. فوضى السلاح تهدد أمن المجتمع دمى "الكروشيه" تحمل رسالة محبّة إلى العالم صناعة الكراهية والخطاب الطائفي.. تهديد للمجتمعات المحامي برجاس لـ الثورة: ضرورة وجود قانون واضح ومح... ألم تشبع الأرض من دماء السوريين؟! المستقبل لا يبنى على الكراهية والانتقام "أدباء غزة..الشّهداء" مآثر حبرٍ لن يجف تقديم الاعتراضات لنتائج مفاضلة الدراسات العليا غداً  ضخ المياه إلى القصاع وجناين الورد والزبلطاني بعد إصلاح العطل بن فرحان وباراك يبحثان خطوات دعم سوريا اقتصادياً وإنسانياً السلل الغذائية تصل إلى غير مستحقيها في وطى الخان  باللاذقية إجراءات لحماية المواقع الحكومية وتعزيز البنية الرقمية  منطقة حرة في إدلب تدخل حيز التنفيذ لتعزيز التعافي الاقتصادي The NewArab: المواقع النووية الإيرانية لم تتأثر كثيراً بعد الهجمات الإسرائيلية الهجمات الإسرائيلية تؤجل مؤتمر الأمم المتحدة حول حل الدولتين قداح يزود مستشفى درعا الوطني بـ 6 أجهزة غسيل كلى   تعبئة صهاريج الغاز من محطة بانياس لتوزيعها على المحافظات إسرائيل.. وحلم إسقاط النظام الإيراني هل بمقدور إسرائيل تدمير منشآت إيران النووية؟