الثورة أون لاين – سامر البوظة:
تمتلك سورية مكانة عريقة وسجلاً سياسياً مضيئاً فيما يخص الممارسة الديمقراطية، ولها بصماتها الواضحة في هذا المجال, لا بل كانت السباقة, فهي تعد من أولى الدول العربية التي مارست الحياة الديمقراطية بكل أشكالها من حيث حرية العمل السياسي والتعبير والاعتقاد وتداول السلطة وغيرها من آليات الديمقراطية، وبحكم التاريخ فإن التجربة الديمقراطية في سورية هي تجربة راسخة ومتجذرة تعبر عن إرث حضاري وتاريخي يمتد لقرون من الزمن، إرث راكمته التجارب وأعادت صهره وصقله الظروف الاستثنائية التي عصفت بها.
وتلك التجربة لم تكن وليدة اللحظة، بل أسست لها الظروف والتجارب السياسية والتاريخية, وكانت نتاجاً طبيعياً لذلك, فبعد طرد المحتل العثماني وإعلان استقلال سورية عام 1918, برز وقتها فترة ما سمي بـ “العهد الوطني” التي امتدت حتى عام 1920, وخلال هذه الفترة القصيرة بدأ المناخ الديمقراطي يتشكل في سورية وبدأت معه ملامح مؤسسات الدولة تترسخ على أرض الواقع، ومنها قيام أول مجلس نيابي يمثل السوريين بعد الاستقلال والذي كان الرحم الذي ولد منه أول دستور للبلاد، فكان صفحة مشرقة في تاريخ العرب الحديث, وصفحة من تاريخ أول تجربة برلمانية عربية رأت خطورة ما يجري ونبهت إلى الخطر المحدق بالأمة.
ومع تعرض سورية للاحتلال الفرنسي عام 1920, توقفت الحياة البرلمانية التي عادت عام 1946مع جلاء آخر جندي فرنسي محتل عن أرض الوطن في الـ 17 من نيسان من العام نفسه, وكانت بداية عهد الحرية والسيادة الوطنية, وبدأ المجتمع السوري بالانتقال إلى مجتمع أكثر حداثة, فعلى الصعيد السياسي نشأت العديد من الأحزاب السياسية والنقابات وتشكلت الجمعيات المدنية والاجتماعية وتمت انتخابات رئاسية وبرلمانية منذ عام 1947, واستقرت بعد دستور عام 1950, حيث نشطت الحياة السياسية مع صدور العشرات من الصحف والمجلات, إضافة لممارسة حق التظاهر وغيره من أشكال الحريات, وعرفت سورية سيادة القضاء والقانون وتم إنشاء محاكم حديثة, فكانت تلك المرحلة التي تكرست فيها فعلياً التجربة الديمقراطية القائمة على التعددية السياسية والحزبية وحرية الإعلام والفكر واحترام الملكية الفردية.
وفي عام 1960, جرت انتخابات “مجلس الأمة” في الجمهورية العربية المتحدة بعد الوحدة بين سورية ومصر ولكنه لم يعمر طويلاً بسبب الانفصال، وأجرى السوريون انتخابات عامة في عام 1961 وتم تشكيل المجلس التأسيسي والنيابي واستمر حتى قيام ثورة الثامن من آذار المجيدة عام 1963 التي قادها حزب البعث العربي الاشتراكي, حيث أسندت للمجلس الوطني للثورة سلطة التشريع ومهمة وضع دستور دائم للبلاد ومراقبة عمل الحكومة, والتي أسست للحركة التصحيحية عام 1970, التي كانت بحد ذاتها فعلاً ديمقراطياً, لتشهد بعدها سورية نقلة نوعية في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وسواها، وتجسد عهد الاستقرار بقيادة الرئيس المؤسس حافظ الأسد الذي أعاد هيكلة البنية المؤسساتية في البلاد وأرسى دعائم الديمقراطية من خلال تشكيل مجلس الشعب الذي أنجز الدستور الدائم للبلاد وقانون الانتخابات اللذين أقرهما في العام 1973, وإعطاء المنظمات الشعبية دوراً فعالاً في قيادة عملية التحويل الاشتراكي وممارسة بناء الديمقراطية الشعبية وإصدار قانون الإدارة المحلية.
إن التجربة الديمقراطية في سورية بمختلف مراحلها التاريخية تعكس حالة المجتمع السوري المتنوع والمتعدد برؤاه الحزبية والوطنية والمجتمعية على صعيد البناء الديمقراطي والمؤسساتي، حيث غنى التجربة البرلمانية وانعكاسها الإيجابي على مستوى التحديات الوطنية كافة, ومن هنا كانت أهمية تشكيل مجلس الشعب الذي جاء استجابة لجماهير الشعب وطموحاته التي تبلورت من خلال القوانين والتشريعات التي طالت جميع جوانب المجتمع وقضاياه, والتي تراكمت إنجازاتها خلال السنوات والعقود الماضية لتتجاوز المجال التشريعي والقانون الديمقراطي بشكل عام و تشمل مجمل الاحتياجات, وتكون اللبنة الأساسية في بناء سورية الحديثة التي تبني حاضرها وترسم مستقبلها بجهود أبنائها المخلصين.
واليوم، وعلى الرغم من قساوة الحرب ومن حجم المؤامرة وما رافقها من إرهاب وتخريب ودمار، ما زالت سورية تقاوم وتعمل وتحفظ السيادة وتستمر بتجربتها الديمقراطية التي تضع مصالح الشعب فوق كل مصلحة، والسيادة الوطنية فوق كل اعتبار، فالحياة السياسية لم تتوقف يوماً, والاستحقاقات التشريعية كانت تتم في موعدها, إن كان انتخابات الرئاسة، أو مجلس الشعب أو انتخابات المجالس محلية، أو غيرها من الاستحقاقات الدستورية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قوة سورية وتماسك مؤسساتها, وتعبر عن إرادة الصمود والتحدي التي باتت سمة بارزة وعنواناً يميز الشعب السوري الذي يرفض المساومة على حقوقه ومبادئه السيادية, والتي تجلت من خلال إصراره على المضي في مسيرة بناء وطنه والدفاع عن كل مكتسباته وحقوقه الوطنية,رغم كل التصعيد الحاصل وكل ما يعانيه من حصار جائر وعقوبات قسرية أحادية الجانب تستهدفه في لقمة عيشه.
وهذا ليس بجديد على الشعب السوري، فجذورهم ضاربة في عمق التاريخ، ولديهم تجربتهم الديمقراطية الغنية التي تمتد لعقود من الزمن، وهم قادرون بخبرتهم على ممارسة تلك التجربة بكل كفاءة وجدارة لكي يكونوا فاعلين، وينهضوا بالبلد ويساهموا بإعادة إعمار ما هدمته الحرب والإرهاب، ليبنوا سورية الحديثة، ومهما اشتد الحصار ومهما كان حجم الضغوط فإن قوة وصمود الشعب السوري وتماسكه ستكون أقوى، وسينتصر.