افتتاحية الثورة – بقلم رئيس التحرير – علي نصر الله:
“أميركا مُستعدة للانطلاق مرة جديدة، نَمضي قُدماً مرة جديدة، نعمل مرة جديدة، نحلم مرة جديدة، نكتشف مرة جديدة، نقود العالم مرة جديدة، لقد أظهرنا لبعضنا بعضاً وللعالم أنه لا يوجد استسلام في أميركا”.
هذا المقطع من خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن أمام الكونغرس في محطة المئة يوم الأولى له في البيت الأبيض، قد يكون استعراضياً، وربما كان سيَحظى بالتصفيق طويلاً ووقوفاً من جميع الحضور بأطيافه السياسية والحزبية. وتقليدياً هذا ما يبحث عنه الرؤساء بخطاب المئة يوم الأولى، وهو ما يُحشد له إعلامياً ليَتردد صداه، ولتَجري مُقارنات بين الرئيس الحالي وسلفه وسابقيه.
هو استعراضي من جهة، لكنه من جهة أخرى يَنطوي على اتهامات كبيرة وخطيرة يُوجهها الرئيس الحالي لسَلَفِه وحزبه كخصم سياسي وكمُنافس انتخابي، بلغة السياسة المُنتقاة مُفرداتها، والمُستخدمة باستعراضية تؤكدها الكلمات الحماسية: النهوض والانطلاق والاكتشاف والقيادة والحلم والعمل .. لكنه المقطع الكاشف من خطاب العنجهية التي لا تُفارق الرؤساء الأميركيين ديمقراطيين كانوا أم جمهوريين.
من عُمق المُفردات الحماسية المُنتقاة بعناية ليَتهم بها الرئيس الصاعد إدارة الرئيس النازل وولايته، يُصوِّب بايدن على ولاية دونالد ترامب وسياساته، وبالوقت ذاته يُحاول ضخ أعظم المَقادير من الزَّخم لمصلحة إدارته التي إذا كانت أظهرت في المئة يوم الأولى انسجاماً داخلياً إلّا أنها لم تتمكن، ولن تتمكن من تَحسين مُرتسمات الصورة لطالما اعتَمَلَت المُفردات ذاتها – التي استخدمها بايدن باتجاهين مُتعاكسين – ما يُثبت وحشية أميركا وعبثية سياساتها وفشل مُخططاتها التي يريد بايدن النهوض بها مجدداً!.
إعلانُ الاستعداد للانطلاق مرة جديدة، يَعتمل المَعنى الإيجابي ونَقيضه، فمن جهة يَرجم بايدن الانطلاقة السابقة وقادتها، يَعترف بفشلها وإخفاقاتها لكنّه يَعِدُ بإعادة إنتاج الحلم على طريقته، ليُجرب مرة جديدة فيَكتشف مرة جديدة ويَجعل العالم ربما يَكتشف مرة جديدة كم هي مُنحطة ساقطة أميركا، كُلُّ إداراتها وجميع سياساتها؟!
إلى أين سيمضي بايدن بأميركا مجدداً؟ وعن أيّ عمل يتحدث من أنّه سيُباشره مرة جديدة؟ ما الاكتشافات التي يُلاحقها؟ وما الأحلام التي يَتَشهى تكرار رؤيتها أو يسعى لتحقيقها؟ وإلى أيّ متاهة أو هاوية سيَقود أميركا ليكون بمقدوره ادّعاء قيادة العالم بكثير من البلطجة والعنجهية، وبلا استسلام للواقعية، بل بنكران تام للموضوعية وتنكر للميثاقية الدولية وبتطاول عليها مبادئ وقوانين؟!
الإجاباتُ عن عشرات الأسئلة المُشابهة التي يتم طرحها في أربع جهات الأرض مُتَضمنة في خطاب العنجهية الكاشف، وبممارسات واشنطن وأعمالها العدوانية بلا حدود ولا آفاق، الدليلُ في ذلك ما اختبرَه العالم من أكاذيب صارت بحجم مُحيطاته وجباله، تلك التي تمت فَبركتها حول العراق قبل غَزوه واحتلاله، من قبلها أفغانستان التي تُغادرها أميركا بضبابية مُتعمدة تُخفي ما تُخفي من قذارات. وبين هذا وذاك وعلى امتداداته باتجاه منطقتنا وباتجاه روسيا القرم أوكرانيا، والصين وبحرها، ستبقى ربما الإجابات الأكثر بلاغة مُختزلة باستثمار أميركا بالإرهاب التكفيري الداعشي وتوظيفه بالشراكة مع الغرب والأعراب والعثمانيين الجدد لضرب سورية والعراق وإيران وثقافة المقاومة ومحورها.
منطق بايدن هو ذاته منطق ترامب وأسلافهما، هو منطق أميركا التي لا تُخفي مُخططاتها في الهيمنة على العالم، وإلا فما مَعنى القول: لا نسعى للنزاع مع الصين، لكننا سنُدافع عن مصالحنا؟ وما معنى: نُؤيد المُنافسة، لكننا سنُحارب الممارسات التجارية غير العادلة؟ من شَرعنَ لأميركا أن تُهدد الآخرين في مياهها وحدودها وداخل أوطانها؟ بل من الذي يُمارس الحصار ويَفرض العقوبات؟ ومن الذي يُحدد ما إذا كانت هذه الممارسات التجارية عادلة أو غير عادلة، إذا كانت أميركا تنقلب على هذا الاتفاق، تَخرج من هذه الاتفاقية، وتنسحب من تلك؟!
بايدن سيُحافظ على وجود عسكري قوي لأميركا في المحيطين الهادي والهندي، لن يَتخلى عن حماية حقوق الإنسان، ولا عن الدفاع عن الديمقراطية، بل من أجل ذلك سيُحافظ على وجوده القوي في الهادي والهندي، وفي البحر الأسود والخليج، وبالمتوسط وبحر الصين، وحيثما هناك مُخطط أميركي تَحطم أو لم ينجح ستكون أميركا جاهزة مُستعدة للانطلاق مرة جديدة باتجاهه .. بايدن سيَمضي قدماً، سيَحلم، سيَكتشف مُجدداً، فربما يَستعجل الرجل اختبار ما لم يكتفِ باختباره من بعد زلات لسانه عندما كان نائباً لباراك أوباما!.