عبروا محطّاتِ الألم.. واستوطنوا القلوب

الملحق الثقافي:رنا محمد:

الثانية ظهراً بتوقيتِ بدايةِ الأسبوع، ويكاد يكون حلماً أشبه بضربٍ من الجنون، أن تباغتكَ مصادفة، تجعلك تستقلُّ “حافلة” حتى وإن جلست بحضنِ أحدٍ ما، أو أجلستَ أحداً بحضنك، لا يهم، المهم أن تجد لنفسك “تعليقة” في وسيلةِ نقلٍ ما.
تراقبُ من بعيدٍ أكوام البشر المنهكة، والوجوه المترقّبة المتعبة… تسأل نفسك: أين أنا بين هذا الكمِّ الهائل، من اللهاثِ والأنين، والركض بلا جدوى.
أزمة السير الخانقة، تلك جعلت من المألوف لأيِّ عابرٍ، مراقبة الوجوه ومحاولة تصيّد أكثرهم حاجة للمغادرة من المكان، لطرحِ فكرة ركوب سيارة أجرة مشتركة، طالما وجهتكم واحدة.. بات مألوفاً أيضاً، أن تجد سائقاً يقف قرب هذه الجموع وينادي: “ع الراكب ألف”.
حتى هذه الرفاهية باتت صعبة، فهذا المبلغ الزهيد، قد يسدُّ رمق بيتك لبعض الوقت، ورغم قلّته، تذوق الأمرَّين لتأمينه.
وسط كلّ هذا الزحام والضجيج، تقف بجانبي حافلة فيهبُّ الناس للركوب فيها، وقوف، قرفصة، سجود.. غير مهم، المهم أن يحالفك الحظ وتجد مكاناً، ولأني لم أكن يوماً من محبّي الانخراط في الزحام، تخلّيت عن حلمِ الركوب في هذه الحافلة، لولا صراخ امرأةٍ، كانت قد حجزت لي المقعد بجانبها، ورفضت جلوس أيّ أحدٍ فيه، قائلةً لكلِّ من يتجرَّأ على محاولةِ الاقتراب منه: “إنه لابنتي”. تقول هذا، وهي تشيرُ لي بأن أصعد، وأنا أتلفّت حولي لأتأكَّد أنها تقصدني.
أخيراً ركبتُ الحافلة، كنّا خمسة في المقعد الذي يتَّسع لثلاثة، التفتُّ لأشكرها فوجدتها غير منتبهة لوجودي، وحين رفعت صوتي ونكزتها بيدي لتنتبه لي، التفتت بجدِّية وقالت: “ما بكِ يا خالتي؟!”
فهمتْ المرأة على يميني حالتها، أو ربما انتبهت لسوادِ ملابسها الأنيقة البسيطة، وسألتها: “كم شهيداً لديكِ”؟..
سقط على مسامعي سؤالها كالصاعقة، بتنا نعيش في وطنٍ يسأل أبناؤه بعضهم بعضاً، كم فقدت وليس كم أنجبت؟.
قالت المرأة وهي تبتسم: “ثلاثة.. كلّ يومٍ أزورهم وأشرب معهم القهوة، هم نيامٌ أمام بعضهم”.
لم تبكِ المرأة وهي تقول ذلك، بل ابتسمت… صوتُ نحيبٍ في الخلف يعلو ليقول: احمدي الله، فأنت تعرفين مكانهم، أنا ابني استشهد، ولا أعرف بأيِّ أرضٍ دُفن”.
أخفض السائق صوت المسجّلة بجانبه، وأبطأ من قيادته الجنونية، وقال: “من ماتَ نعرف به، لكنّ المفقود لا نعرفُ إن كان حيّاً، أم إنه بديارِ الحقّ، إنه يموتُ في كلِّ يوم، ونموتُ معه ألف مرّة.
تبادل الركاب مأساتهم، فبين من خسر غالياً، إلى من تهدّم بيته، إلى من كان ضحيّة احتيالٍ وخسر جنى عمره بلحظة، وأنا أعبر هذه الرحلة الثقيلة والطويلة، وأراقب الناس في الطرقات تشير للحافلة.
قلت للسائق: “لو سمحت، أنزلني هنا”.
ودّعتهم كأصدقاءٍ حقيقيين ونزلت.. كان الطريق إلى بيتي لا يزال بعيداً، لكنني شعرتُ بحاجةٍ للمشي، لا يهمّ أنَّ الجوّ حار والوقت يمضي ثقيلاً… مشيتُ ورافقتني وجوه العابرين الذين أعرفهم، أفكِّر كم هي سخيفة مشاكلي، ما الهمُّ إن كان ابن بلدي يؤجِّرني بيته بعقدٍ سياحيٍّ، ويقرّر زيادةِ الأجرة كلّ عدّة أشهر؟!.. ما الهمُّ إن كنّا نعمل “زوجي وأنا” ليلَ نهار، ونبقى نعاني أمام تضخّم الأسعار؟! ما الهمُّ إن كنّا غرباء في زمنٍ، بات كلّ من فيه غرباء؟..
كلّ ذلك غير مهمّ، طالما أن أبناءك في حضنك سالمين، تراهم يبتسمون ويصرخون في المكان، ويملؤون حياتك بالضجيج والتعب والمرح والحبّ. نعم، تراهم حولك، لا كصورة في الذاكرة وعلى الجدران.
أبتسمُ في سرّي لكلِّ عابريّ الطريق، الذين نضعهم وبعد أن نشاركهم، بعض الكيلومترات في وسيلةِ نقلٍ جماعية، في صميمِ القلوب.

التاريخ: الثلاثاء4-5-2021

رقم العدد :1044

 

آخر الأخبار
باحثون عن الأمل بين الدمار.. إدلب: إرادة التعلم والبناء تنتصر على أنقاض الحرب  إعلان بغداد: الحفاظ على أمن واستقرار سوريا واحترام خيارات شعبها للمرة الأولى.. انتخابات غرفة سياحة اللاذقية ديمقراطية "الاتصالات " ترفع مستوى التنسيق  مع وسائل الإعلام لتعزيز المصداقية مياه " دمشق وريفها: لا صحة للفيديو المتداول حول فيضان نبع الفيجة  "موتكس" يعود كواجهة لمنتج النسيج السوري إطلاق الوكالة الأولى للسيارات الكهربائية بسوريا وتوريد أول 500 سيارة  ورشة العدالة الانتقالية توصي بتشكيل هيئة ومعاقبة المتورطين بالجرائم  "بطاطا من رحم الأرض السورية"..  مشروع وطني يعيد تشكيل الأمن الغذائي   مشاركون في قمة بغداد: مواصلة دعم سوريا ورفض أي اعتداءات  الوزير الشعار "يطمئن" على معمل الليرمون  بعثة طبية لـ"سامز" تستهدف عدة مستشفيات في سوريا الشيباني أمام قمة بغداد: سوريا لجميع السوريين ولا مكان فيها للتهميش أو الإقصاء البنك الدولي: سعداء بسداد متأخرات سوريا ومجال لإعادة التعامل  بمشاركة سوريا.. انطلاق أعمال القمة العربية الـ 34 في بغداد  ArabNews: فرصة تاريخية لانطلاقة إيجابية في بلاد الشام م. العش لـ"الثورة": قطاع التأمين سيشهد نقلة نوعية تطوير مهارات مقدمي الرعاية الاجتماعية في درعا   تحت إشراف مباشر من محافظ السويداء، عدد من طلبة السويداء يتوجّهون اليوم إلى جامعة "غباغب"..   كيف يواجه الأطفال تحديات التكيف بعد سنوات من اللجوء؟