الملحق الثقافي:عبد الحكيم مرزوق:
صدر حديثاً، عن دار صفحات في دمشق، ودار عدنان في بغداد، كتاب «نهاية الدولة العثمانية وتشكيل الشرق الأوسط».. تأليف، الكاتب والمؤرّخ الأميركي «ديفيد فروميكن»، وترجمة «وسيم عبدو»، وهو من قراءة وتقديم، الدكتور «منذر الحايك».
كثيرةٌ هي الكتب، وأكثر منها البحوث والمقالات التي أوحاها انفراطُ عقد الدولة العثمانية، وما تبع ذلك من قيام كياناتٍ سياسيّةٍ متعدّدة. لكن، معظم تلك الكتب والبحوث والمقالات، كانت تفتقر إلى اطّلاع كُتَّابها على حقيقة الأمر، وكما جرى فعلاً.
لقد قرأنا كثيراً مما كُتب بوحي العاطفة القوميّة أو الدينيّة، أو المصالح والأهواء فقط، لكن لم يذكر أحد أمامنا حتى الآن، كيف جرى ذلك حقيقةً، وبدقائق الأمور.. لكن، ما أورده «ديفيد فروميكن» في هذا الكتاب، يتفرّد عن كلّ ما كُتب، فهو يوردُ معلومات موثّقة بمنهجٍ علميّ واقعيّ، بعيد عن العواطفِ والمصالح والمؤثّرات، هنا الوقائع تتكلم، والحقائق المجرّدة، توضّح كيف صُنع التاريخ من جديد، ولذلك قد يخلق الكتاب أزمة ثقافيّة، فهو يقلبُ كلّ ما تعلمناه أو جلّه، ولكن الأخطر، هو الأزمة الروحيّة التي سيخلّفها بعد قراءته حتماً، وسيدركُ القارئ معنى المصادفة في التاريخ، وسيعرف معنى التآمر لتمرير السياسات حتى ضمن الجهاز الواحد للدولة، وسيصعب عليه أن يصدّق الكثير مما احتوى عليه الكتاب، فأيّ أصدقاء هؤلاء الذين كانوا في سرّهم أكثر من أعداء؟!..
إن ما كان بالأمسِ القريب، مشاريع وخططاً وأفكاراً في الرؤوس، أو خراطيش على الورق، هو الآن واقع قائم له أسس، وله من يدافع عنه بشراسةٍ، ممن تجذّرت مصالحهم السياسيّة، أو الاقتصاديّة فيه.
يبقى السؤال الأهم الذي أجاب عنه الكتاب: أين حدود الواقع والخيال، مما كنّا نعرفه عن مجريات تلك المرحلة؟.. مثلاً، الجمعيات العربية؟.. ابن سعود؟.. الشريف حسين؟.. الملك فيصل، والأمير عبد الله؟.. وما حقيقتهم؟، وحقيقة المعلومات التي كانت مطروحة عنهم لأغراض الدعاية، أو الدعاية المضادة؟.. حقيقة وعد بلفور وغيره؟..
مع أن «فرومكين» أعدّ كتابه هذا في الولايات المتحدة، ووضعه أصلاً لقرّائها، ولكنه كتاب يعنينا، فهو عنا ولنا، ويتعلّق بمرحلةٍ من أخطر مراحل تاريخنا، وأكثرها مشكلات.. إذاً، علينا أن نقرأ، لنعرف ماذا صنعوا بنا، لأننا بذلك قد نتمكّن من معرفة ماذا سيصنعون مستقبلاً، وكيف كان العرب عندما نظرت إليهم الدول الكبرى غنيمة حرب، واقتسمتهم ومزّقت أواصرهم لآلاف السنين.
يا ترى، هل كان العرب واعين لما كان يحصل؟!!.. إن كانوا يعونَ ذلك، فماذا فعلوا؟، أو ماذا كان يمكن أن يفعلوا؟.. وإن لم يكن لهم دورٌ في صياغة هذا الواقع، فهل يستطيعون صياغة مستقبلٍ أفضل في ظلِّ هذا الواقع؟، ولاسيما أن العالم، ينظر إليهم ويتعامل معهم، على أساس أنهم شتات قبائل، ودولهم أجزاء أقاليم، وأنهم قاصرون وضعفاء، بل وأنهم حتى في المستقبل، غير قادرين على أن يتوحّدوا، ومن المؤلم أن هذا ينطبق على معظم واقع العرب، إن لم يكن عليه كلّه، فمعظم العرب اليوم يروّجون بفرحٍ لإخفاق المشروع الوحدويّ القوميّ، ليُلقوا عن كاهلهم، الشعور بالالتزام القوميّ.
من متابعتنا لمجريات الأحداث في هذا الكتاب، سنجد أنه مؤلم بقدرِ ما هو قيّم، ويلحُّ علينا خلال قراءته السؤال المرعب: هل نحن الآن على أعتابِ مرحلةٍ جديدة من مراحلِ تشكيل الشرق الأوسط، وقد تكون أسوأ بنتائجها، وأقسى بعواقبها على العرب؟..
إن بداية ما يسمى قضية الشرق الأوسط، كانت مع نهاية الدولة العثمانيّة التي انتهت بمفاجآتٍ كبرى، قلبت الأوضاع رأساً على عقب، فمنذ ذلك الوقت، فُرضت صيغ على شعوب الشرق الأوسط، فرضها العثمانيون أولاً، ثم البريطانيون والفرنسيون، فهل جاء الآن دور الأميركيين كي يفرضوا صيغتهم الجديدة على الشرق الأوسط؟!!.
كتب الصحافي الأمريكي «توماس فريدمان» مقالة عنوانها: «الشرق الأوسط: تعالوا نعرّيه قبل إعادة تكوينه»، نشرتها صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، قال فيها: «حدد المؤرخ فرومكين كيف تكوّن الشرق الأوسط بقوله: في عام 1922م استطاع تشرشل أن يرسم مصوّر الشرق الأوسط العربيّ، بخطوطٍ تلائم مصالح الإدارات البريطانيّة، المدنيّة والعسكريّة، والآن، وبعد عقودٍ من ذلك التاريخ، فإن السؤال هو إذا كان أهل الشرق الأوسط راغبين، أو قادرين على الاستمرار في العيش، وفق ذلك التصور».. يضيف فريدمان: «يُطرح السؤال نفسه اليوم، وعلى نحوٍ أكثر حدّة هذه المرة، فما يحدث الآن ليس سوى «لحظة» تشرشليّة أخرى، فتضاريس الأقاليم الشرق الأوسطيّة المحوريّة، يعاد تكوينها حالياً، ولكن لا يحدث ذلك بفعلٍ إمبرياليّ من أعلى، وليس متوقعاً أن يكون كذلك، إنه يحدث بتأثير نزاعاتٍ تشتعل من تحت، وتضطرمُ في صدور سكانه، ولكن هذه الرؤى الاستعماريّة في تقسيم الشرق الأوسط، قد تجدُ آذاناً صاغية في الإدارة الأمريكية الحالية، التي وصفها فريدمان بأنها: «إدارة خطيرة جداً»، ولا يُستبعد أن تعمد واشنطن، على المدى الطويل، إلى محاولة تقسيم الشرق الأوسط، ليسهل عليها التعامل مع بلدانٍ صغيرة.
أما «إدوارد لوتواك» المؤرّخ العسكريّ، الذي يعمل في مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة في واشنطن، فأجاب عن السؤال نفسه: «إنه لا يظن أن الغرب قادر على تشكيلِ مستقبل الشرق الأوسط مرة أخرى»، وأضاف أن الولايات المتحدة بتدخلها، لن تزيد على أن تعطي العرب «سبباً جديداً لمعاداتها»، ولكن ما لا يمكن إنكاره، أنه بعد المعطيات الجديدة للمغامرات العسكريّة الأمريكيّة في الشرق الأوسط، وخاصة مع هشاشة في تركيبة بعض دوله، قد جعلت قدرة أنظمة دول الشرق الأوسط الحديث، على الصمودِ والبقاء، سؤالاً مفتوحاً بطريقةٍ لم تكن قبل بضع سنوات فقط، بل الأكثر من ذلك، قدرة هذه الأنظمة على تسويغ شرعيّة وجودها كدولة، وهذا ما يسميه الرئيس بشار الأسد: «أزمة الشرعيّة لدى أنظمة الشرق الأوسط»، فقد أشار إلى ذلك خلال حديثه مع صحيفة «نيويورك تايمز» معلقاً على ما ورد في كتاب فرومكين، حيث ألقى اللوم على سوءِ الاستخبارات البريطانيّة، التي غرّر بها عضو جمعية سريّة من دمشق، وكيف «قادت القوى الغربية إلى رسم الحدود، ومن ثم خلقت أزمة من الشرعيّة، لا تزال أنظمة الشرق الأوسط تعانيها حتى الآن».
أخيراً، لابدّ أن يتوقف قارئ الكتاب، كما توقّف مُقدمه في نهاية الكتاب، ولدى السؤال الذي طرحه فرومكين، ويتعلّق بإمكانيّة استمرار الكيان الصهيوني بالوجود، وهو كيان ليسَ له من مقوماتِ الدول إلا الاسم، يقول: هل سيتمكن هذا النظام من النجاة في أرض الشرق الأوسط الغريبة التي زُرع بها؟..
سؤال، هل غاية «فرومكين» منه، جعلنا نتلمّس ما كان قد نوّه إليه، ضمن نصِّ السؤال؟!!.. من المؤكَد ذلك، وعلى رأيه: إن نبتة غريبة، لن تتمكن من النجاة بحياتها، في بيئةٍ ليست بيئتها..
التاريخ: الثلاثاء20-7-2021
رقم العدد :1055